الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
اختلف المفسرون في المراد بقوله تعالى : ( وخلقنا لهم من مثله ) ، فقال بعضهم – وهو المشهور – : وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح ، سفن ومراكب يركبون عليها في البحر ، وقال آخرون المراد بالآية : الإبل ، خلقها الله للركوب عليها في البر .
قال ابن الجوزي رحمه الله : ” قوله تعالى : ( وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ) فيه قولان :
أحدهما : مِثْل سفينة نوح ، وهي السُّفُن ، روى هذا المعنى سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، وأبو مالك ، وأبو صالح .
والمراد بهذا : ذِكْر مِنَّته بأن خَلَق الخشب الذي تُعْمَل منه السُّفُن .
والثاني : أنها الإِبل ، خَلَقها لهم للرُّكوب في البَرِّ مثل السُّفُن المركوبة في البحر ، رواه العوفي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وعن الحسن وقتادة : كالقولين ” .
انتهى من ” زاد المسير ” (3/ 525) .
وعلى المعنى الأول ، أن المراد بذلك : السفن المعروفة ، تكون إضافة خلق السفن لله جل وعلا من باب : أن الله خالق كل صانع وصنعته ، فهو سبحانه كما خلق الإنسان ، فقد خلق صنع ذلك الإنسان وفعله ، كما قال تعالى : ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) سورة الصافات /96 ، وروى البخاري في ” خلق أفعال العباد ” (ص/ 46) عن حذيفة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يصنع كل صانع وصنعته ) ، وتلا بعضهم عند ذلك : ( والله خلقكم وما تعملون ) الصافات/ 96 ، فأخبر أن الصناعات وأهلها مخلوقة ؛ فهو سبحانه خالق العباد ، وخالق أعمالهم ، وخالق المادة ، وخالق الصورة ، سبحانه .
قال ابن القيم رحمه الله في تقرير ذلك ، وبيان أن آية خلق الفلك ، نظير الآية المذكورة ـ ( وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) ـ :
” نظيره من الاستدلال سواء قوله : وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ .
والأصح : أن المِثْل المخلوق هنا هو السفن ، وقد أخبر أنها مخلوقة ، وهي إنما صارت سفنا بأعمال العباد .
وأبعد من قال : إن المثل هاهنا ، هو سفن البر ، وهي الإبل ؛ لوجهين :
أحدهما: أنها لا تسمى مِثلا للسفن ، لا لغة ولا حقيقة ؛ فإن المثلين ما سد أحدهما مسد الآخر ، وحقيقة المماثلة : أن تكون بين فلك وفلك ، لا بين جمل وفلك .
الثاني : أن قوله: وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ عقب ذلك : دليل على أن المراد الفلك التي إذا ركبوها قدرنا على إغراقهم ؛ فذكَّرهم بنعمه عليهم من وجهين : أحدهما: ركوبهم إياها ، والثاني: أن يسلمهم عند ركوبها من الغرق ” انتهى من ” بدائع الفوائد ” (1/152) .
وذهب بعض أهل العلم : إلى أن الإضافة من باب أن الله هو الذي علم الإنسان صنع مثل تلك الأشياء ، فناسب أن تضاف له سبحانه وتعالى .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : ” خلق لهم من مثل هذه الفلك ما يركبون ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ، فالناس تعلموا كيف يصنعون السفن ، وصاروا يصنعون مثل هذه السفن ، ولعل قوله تعالى في سورة القمر : ( وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) ، فيها الإشارة إلى مواد هذه السفينة أو الفلك ؛ لأجل أن يتعلم الناس ؛ لأنه لم يقل ( حملناه على فلك ) ، بل قال : ( عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ) كأنه يقول : إن هذه الفلك مصنوعة من الألواح والمسامير ، حتى يتعلم الناس مواد هذه الفلك ……. ، قال المؤلف – يعني : جلال الدين المحلي – رحمه الله : ( بتعليم الله تعالى ) إشارة إلى سؤال مقدر ، كأنه قال : كيف قال تعالى : ( وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ) ؟ وهذه السفن مصنوعة بأيدي البشر ، وليست بخلق الله كخلق البعير التي نركب والفرس وما شابهها ؟ فأجاب المؤلف : بأن الله تعالى أضاف خلقها إليه ؛ لأنها كانت بتعليمه سبحانه وتعالى ” انتهى من ” تفسير القرآن الكريم – سورة يس لابن عثيمين ” (ص/155) .
والله أعلم .