0 / 0

غضب النبي صلى الله عليه وسلم من مقتضى بشريته

السؤال: 218099

( اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً ، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ ، لَوْ قَالَ : أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ) رواه البخاري (6115) ، ومسلم (2610) .
( دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ ، فَلَعَنَهُمَا ، وَسَبَّهُمَا ، فَلَمَّا خَرَجَا ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا ، مَا أَصَابَهُ هَذَانِ ، قَالَ : ( وَمَا ذَاكِ ) ، قَالَتْ : قُلْتُ : لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا ، قَالَ : ( أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي ؟ قُلْتُ : اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ ، أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا ) رواه مسلم (2600) .
( لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ ) البخاري (6114) ، ومسلم (2609) .
( فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ؟ فَقَالَا : نَعَمْ . فَسَبَّهُمَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ ) مسند أحمد (36/389)
لا أظن لبيبا إلا ويجد تعارضا صريحا في تلك الأحاديث ، لذلك كل الأحاديث التي تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسب ويشتم وما أشبه : في القلب منها شيء ، وليست مسلَّمة إلى رواتها وناقليها .
وطبعا لا تنفع بعض الاعتذارات الباردة لهذه الأحاديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر ويغضب ، هذا صحيح ، لكن النبي عليه السلام هو القدوة الحسنة في الرضا والغضب ، فعندما أغضب مثلا لا يكون تثريب علي إن سببت ولعنت لأنه جاءت روايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل ذلك وقت الغضب !
وجاءت روايات أخرى تنهى عن الفحش في الكلام ، وضبط النفس وقت الغضب ، فمن المستحيل أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) البقرة/44.
وحديث (.. اللهم إنما أنا بشر ..) فأنا أفهمه مثل ما أفهم حديث : ( فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ) رواه مسلم (2702) ، زيادة تقوى منه عليه الصلاة والسلام .
فلماذا الكثير منكم ينتصر للرواية على حساب الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
لماذا ليس مهما عندكم أن يظهر الرسول بمظهر المتناقض في أقواله ، كل هذا لكي لا يقال إن في الصحيحين أحاديث باطلة ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

إذا كنت تؤمن معنا ببشرية الرسول عليه الصلاة والسلام ، فذلك يعني أنك تؤمن بأنه عليه الصلاة والسلام يأكل ويشرب وينام ويستيقظ ويتزوج النساء ويدخل الخلاء ، وأيضا من لوازم بشريته عليه الصلاة والسلام أنه قد ينسى ويخطئ ، وقد يتصرف على خلاف الأولى والأجدر ، بل قد قرر ذلك جمهور العلماء : أن الأنبياء غير معصومين من الصغائر ، ووردت بذلك الأدلة .
ينظر : (7208) ، (42216) .
ألم تقرأ قول الله عز وجل : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى . أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى . وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى . أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى . أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى . فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى . وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى . وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى . وَهُوَ يَخْشَى . فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى ) عبس/1-10، فهو عتاب صريح من الله عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام ، نتيجة تصرفه خلاف الأولى مع ذلك الأعمى ، وقد كان الأصل أن يقبل عليه ويكرمه بما يليق به .
وكذلك ألم تقرأ قول الله سبحانه : ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ) التوبة/43. يقول العلامة السعدي في تفسيره : ” أي : سامحك وغفر لك ما أجريت ” انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن ” (ص/338) ، ففيه عتاب واضح على إذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه من المنافقين بالتخلف عن القتال ، وهو واحد من أمثلة بشريته صلى الله عليه وسلم التي من مقتضاها السهو والخطأ والغضب ، وإن كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم في الأحيان النادرة ، بعكس من يغلب ذلك عليه ، أو يكون ديدنا له ، وينقاد لمتقضى الطبع في أمره كله ، أو في غالبه .

وتصور ما سبق يعينك على جواب سؤالك واستشكالك ، خاصة حين تسائل نفسك : لماذا لم يخطر لك الإشكال نفسه على هذه الآيات ، بأن تقول : لو جاءك أعمى يطلب منك دعوته إلى الحق ، وتعليمه الخير ، فأعرضت عنه : فلا تثريب عليك ؛ لأن ذلك حصل من النبي صلى الله عليه وسلم !!
بل نقول إن التثريب عليك واقع ، واللوم عليك حاصل أيضا ، ولا يحل لك التعلل بقصة الأعمى ، ابن أم مكتوم ، وما كان من شأنه .
وحالك تماما كحال الذي يريد أن يقع فيما نهاه الله عنه ، ويقول : إن آدم عليه السلام نهي عن الأكل من الشجرة ، فخالف وأكل ؟!!
أو كحال من يقتل النفس المحرمة ، ويتعلل بأن موسى عليه السلام وكز رجلا بعصاه فقضى عليه !!
إلى أمثال هذه التعليلات الباطلة المردودة ، حتى يعود ما قص الله علينا في كتابه وبالا على فاعل ذلك ؛ نتيجة الفهم الخاطئ لقضية بشرية الرسل والأنبياء .

ولعله ألا يكون من الأدب في حقنا تقصي مثل هذه المخالفات للرسل والأنبياء الكرام ، أو العمد إلى جمعها ، والإكثار فيها ؛ حتى قال ابن العربي رحمه الله : ” لا يجوز لأحد منا اليوم أن يخبر بذلك ( أي بعصيان آدم ) إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه ، أو قول نبيه ، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه ، فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين المماثلين لنا، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم الذي عذره الله وتاب عليه وغفر له ” .
انتهى من ” أحكام القرآن ” لابن العربي (3/259) .
فإن الله جل جلاله لم يقص ذلك في كتابه عن أنبيائه ، ليعيرهم بها ، أو ليكون ذلك موضع الأسوة والقدوة فيهم ، حتى يقول القائل : لي أن أغضب كما غضب نبي الله ، ولي .. ولي ؛ فإن محل القدوة هو في مقام الأنبياء بعد ذلك ، وعبوديتهم لربهم إثر ما ألموا به من ذلك .
قال أبو المعالي الجويني رحمه الله :
” مَذْهَبُنَا الَّذِي نَدِينُ بِهِ ، لَا تَجِبُ عِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ عَنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ ، وَآيُ الْقُرْآنِ فِي أَقَاصِيصِ النَّبِيِّينَ مَشْحُونَةٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى هَنَاتٍ كَانَتْ مِنْهُمْ ، اسْتَوْعَبُوا أَعْمَارَهُمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ مِنْهَا ” انتهى من “غياث الأمم ” (94) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” وَإِنَّمَا ابْتَلَى اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ بِالذُّنُوبِ : رَفْعًا لِدَرَجَاتِهِمْ بِالتَّوْبَةِ ، وَتَبْلِيغًا لَهُمْ إلَى مَحَبَّتِهِ وَفَرَحِهِ بِهِمْ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيَفْرَحُ بِتَوْبَةِ التَّائِبِ أَشَدَّ فَرَحٍ فَالْمَقْصُودُ كَمَالُ الْغَايَةِ لَا نَقْصُ الْبِدَايَةِ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ لَهُ الدَّرَجَةُ لَا يَنَالُهَا إلَّا بِمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الْبَلَاءِ ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (20/89) .

وحينئذ ؛ فليس غضب النبي هو محل القدوة ولا الأسوة ، بل ما يحدثه لربه من العبوديات بعد ما ألم به ، هو محل الأسوة والقدوة .
ثم إن من حِكَم ذلك : أن تتعلم منه الأمة أن الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى .
” قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ : إِن الله تَعَالَى لم يذكر ذنُوب الْأَنْبِيَاء فِي الْقُرْآن ليعيرهم بهَا؛ وَلَكِن ذكرهَا ليبين موقع النِّعْمَة عَلَيْهِم بِالْعَفو، وَلِئَلَّا ييأس أحد من رَحمته .
وَقيل: إِنَّه ابْتَلَاهُم بِالذنُوبِ ليتفرد بِالطَّهَارَةِ والعزة ، ويلقاه جَمِيع الْخلق يَوْم الْقِيَامَة على انكسار الْمعْصِيَة ” انتهى من ” تفسير السمعاني ” (3/22) .

ثم لتلعم أن غضب النبي صلى الله عليه وسلم رحمة بمن غضب عليه منهم ، وأجر له ، وصدقة ، كما في الحديث المذكور آنفا في سؤالك ؛ وصدق الله العظيم : ( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ) التوبة/128.

وحينئذ تعلم أنه لا تعارض بين هذا الغضب وبين الأحاديث النبوية الشريفة التي تحذر منه ، أو مع المواقف الغالبة للنبي صلى الله عليه وسلم التي استعمل فيها الحلم والعفو والصفح ، حتى مع أشد الأعداء قساوة وضراوة في محاربة الإسلام والمسلمين .
فهل يبقى بعد ذلك أي إشكال في حديث عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : ” دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلَانِ فَكَلَّمَاهُ بِشَيْءٍ ، لَا أَدْرِي مَا هُوَ فَأَغْضَبَاهُ ، فَلَعَنَهُمَا ، وَسَبَّهُمَا ، فَلَمَّا خَرَجَا ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ أَصَابَ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا ، مَا أَصَابَهُ هَذَانِ ، قَالَ : ( وَمَا ذَاكِ ) . قَالَتْ : قُلْتُ : لَعَنْتَهُمَا وَسَبَبْتَهُمَا ، قَالَ : ( أَوَ مَا عَلِمْتِ مَا شَارَطْتُ عَلَيْهِ رَبِّي ؟ قُلْتُ : اللهُمَّ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، فَأَيُّ الْمُسْلِمِينَ لَعَنْتُهُ ، أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْهُ لَهُ زَكَاةً وَأَجْرًا ) رواه مسلم (2600) .

وينظر لمزيد الفائدة حول هذه المسألة : جواب السؤال رقم : (147389) ، (139912) .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android