الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
روى الترمذي (2325) ، وأحمد (18031) عن أبي كَبْشَةَ الأَنَّمَارِيُّ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ ) .
وقال الترمذي عقبه : ” هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ” ، وصححه الألباني في ” صحيح سنن الترمذي ” .
والحديث يدل على أنه تكفي النية حتى يتحقق هذا الجزاء ، ولكن يشترط لذلك أن يكون عاجزا عن العمل ، فإن كان قادرا على العمل كله أو بعضه : فإنه يفعل ما يستطيع منه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” من نوى الخير وعمل منه مقدوره ، وعجز عن إكماله : كان له أجر عامل ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (22/243) .
وقال رحمه الله أيضا :
” الْمُرِيدُ إرَادَةً جَازِمَةً ، مَعَ فِعْلِ الْمَقْدُورِ : هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ الْكَامِلِ ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (10/ 731) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” إن الذي لا يقدر على عمل معين ، إما أن يكون لذلك العمل بدل يقدر عليه ، فهذا لا يثاب على العمل إذا لم يأت ببدله ؛ لأنه لو كان صحيح النية لعمل ذلك البدل ، فعلى هذا يكون حصول الأجر مشروطا بعدم وجود بدله المقدور عليه ، على أنا نقول : إن من نفع الناس بماله فله أجران .
الأول : بحسب ما قام بقلبه من محبة الله ، ومحبة ما يقرب إليه ، فهذا الأجر يشركه فيه الفقير إذا نوى نية صحيحة .
والأجر الثاني : دفع حاجة المدفوع له ، فهذا لا يحصل للفقير ، والله أعلم ” انتهى من ” مجموع فتاوى ابن عثيمين ” (7/244) .
وأما قوله : ( فهما في الأجر سواءٌ ) فحمله بعض العلماء على أن المراد استواؤهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته . فالعامل تضاعف له الحسنة بعشر أمثالها أو أكثر ، أما الناوي فقط فيكتب له الثوب بلا مضاعفة .
قال ابن رجب رحمه الله :
” وقد حمل قوله : ( فهما في الأجر سواءٌ ) على استوائهما في أصلِ أجرِ العمل ، دون مضاعفته ، فالمضاعفةُ يختصُّ بها من عَمِلَ العمل دونَ من نواه فلم يعمله ، فإنَّهما لو استويا مِنْ كلِّ وجه ، لكُتِبَ لمن همَّ بحسنةٍ ولم يعملها عشرُ حسناتٍ ، وهو خلافُ النُّصوصِ كلِّها ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى : ( فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) ، قال ابن عباس وغيره : القاعدون المفضَّلُ عليهم المجاهدون درجة : همُ القاعدون من أهلِ الأعذار ، والقاعدون المفضَّل عليهم المجاهدون درجاتٍ : هم القاعدون من غير أهل الأعذار ” انتهى من ” جامع العلوم والحكم ” (2/321) .
وقال السندي رحمه الله في ” حاشيته على ابن ماجه ” :
” وَالْمُرَاد يُؤْجَر عَلَى نِيَّة الْخَيْر ، فَهُوَ فِي أَصْل الْأَجْر أَيْضًا مُسَاوٍ لِلْمُنْفِقِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُنْفِقِ زِيَادَة ، فَإِنَّ مَنْ نَوَى حَسَنَة يُكْتَب لَهُ وَاحِدَة ، وَإِذَا فَعَلَهَا فَعَشْرَة ” انتهى .
ثانيا :
” لو ” هنا للتمني ، وليست للتندم والتحسر ، فتختلف عنها في قول العبد : ” لو أني فعلت كذا لكان كذا ” فإنها هنا تفتح عمل الشيطان ، أما التي هي للتمني ، فبحسب الأمنية ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
وكلمة ” لو ” تستعمل عدة استعمالات ، بعضها جائز وبعضها غير جائز ، ولهذا ترجم الإمام البخاري رحمه الله : باب ما يجوز من ” اللو ” .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” لو ” تستعمل على عدة أوجه :
الوجه الأول : أن تستعمل في الاعتراض على الشرع ، وهذا محرم .
الثاني : أن تستعمل في الاعتراض على القدر ، وهذا محرم .
الثالث : أن تستعمل للندم والتحسر ، وهذا محرم أيضا ؛ لأن كل شيء يفتح الندم عليك ، فإنه منهي عنه ، قال صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء ، فلا تقل : لو أني فعلت كذا لكان كذا ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ) .
الرابع : أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية، كقول المشركين : ( لو شاء الله ما أشركنا) الأنعام/148 ، وهذا باطل .
الخامس : أن تستعمل في التمني ، وحكمه حسب المتمني : إن كان خيرا فخير ، وإن كان شرا فشر ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الأربعة قال أحدهم : ( لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان ) ، فهذا تمنى خيرا ، وقال الثاني : ( لو أن لي مالا لعملت بعمل فلان ) ، فهذا تمنى شرا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم في الأول : (فهو بنيته ، فأجرهما سواء ) ، وقال في الثاني : ( فهو بنيته ، فوزرهما سواء ) .
السادس : أن تستعمل في الخبر المحض ، وهذا جائز ، مثل : لو حضرت الدرس لاستفدت ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولأحللت معكم ) ” انتهى باختصار من ” مجموع فتاوى ابن عثيمين ” (10/ 948-949) .
ثالثا :
لا يلزم أن يكون الاثنان في نفس الزمان ، ولكن يشترط أن يكون الفعل ممكنا بالنسبة له ، وهذا كعموم الأفعال الصالحة الممكنة في كل زمان ، كالصدقة ، وطلب العلم ، والجهاد في سبيل الله ، ونحو ذلك ، أما صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ، والجهاد معه مثلا ، فلا يمكن ، ولا يقدر أن يأتي منه بشيء ، فمثل هذا لا ينطبق عليه الحديث ، وإنما هو حديث نفس صالح .
وينظر للفائدة إلى إجابة السؤال رقم : (11010) ، وإجابة سؤال رقم : (99324) ، وإجابة سؤال رقم : (127714) .
والله أعلم .