0 / 0
13,35724/07/2015

الانتساب للمذاهب الفقهية ليس تفرقا في نفسه

السؤال: 226254

تحدث ذات مرة أحد العلماء المشهورين ، فقال في معرض حديثه : ما الذي جرى للمسلمين ، قسّموا أنفسهم طوائف وجماعات ، فهذا حنبلي ، وهذا شافعي ، وهذا مالكي ، وهذا حنفي ، وهذا سلفي.. الخ . إن كان ولا بد من الانتماء ، فلماذا لا نقول : ” محمدي ” ، على اعتبار أنه صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة ، وخير من يٌنتسب إليه ! أو بالأحرى ، لم لا نقتصر على تسمية الله لنا ( هو سماكم المسلمين ) فما رأيكم في قوله ؟

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

لا نوافق من يتحدث عن تفرق الأمة وتشرذمها ، فيضرب على ذلك مثالاً بالمذاهب الفقهية ،
وذلك لأسباب عديدة :
أولا :
كل انتساب يمكن أن يتحول إلى عامل تفرق وخلاف ، ويمكن أن يبقى في إطاره التعريفي أو الوصفي .
بل حتى الانتساب الشرعي ، الثابت في الكتاب والسنة النبوية ، يمكن أن يتحول إلى ” دعوى جاهلية “، إذا ما أضفيت إليه نزعات التفرق والشقاق . كما وقع للصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، حين ( كَسَعَ [أي ضرب دبره] رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ . فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ! فَسَمِعَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ … دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ ) رواه البخاري (4905) ، ومسلم (2584) .
فالإنتان – على الأوصاف الشرعية – طارئ ، بسبب الاستعداد للفتنة ، والانتصار للنفس والفئة على الحق أو الباطل ، والتداعي للتعصب المطلق ، وغض الطرف عن ميزان الحق والعدل .

ثانيا :
ومن هنا : فإن الانتساب للمذاهب الفقهية ليس تفرقا في نفسه ، بل بفهمه الخاطئ الذي يمكن أن يقع فيه الأتباع ، بالتعصب للإمام ، والشقاق في المساجد ، والتحامل على المذاهب الأخرى ، وازدراء ما عندهم أو انتقاصه ، أو التعالي والاستطالة بسبب هذا الانتساب ، حينها تتحول النسبة المذهبية الفقهية إلى نسبة مذمومة ، وتفرق مشؤوم ، طالما وقع فيه بعض الأتباع عبر تاريخ المذاهب ، غير أن التيار الأعم الأغلب – بحمد الله – حافظ على وحدة الكلمة واجتماع القلوب والاستفادة من جميع فقهاء الإسلام .

ثالثا :
والسبب في سلامة الانتساب المذهبي الفقهي : هو أن المذاهب الأربعة ليست فرقا عقائدية ، انفصلت عن جسد الأمة بمقولة عقدية خاصة ، أو رؤية إيمانية شاذة ، وإنما هي مناهج مدرسية في فهم النصوص ، وتحديد العلاقات بينها ، واعتبار مصادر التشريع في الفقه ، ولا تخرج في شيء منها عن إطار ” الاجتهاد ” الذي هو رحمة الأمة وثراء شريعتها ، والذي أساسه الأول إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الكرام في اختلافهم في فهم نص كلامه في حياته ، كاختلافهم في فهم قوله صلى الله عليه وسلم : ( لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ ) رواه البخاري (946) ، ومسلم (1770) ، واختلافهم في فهم قوله عليه الصلاة والسلام : ( ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ ) رواه البخاري (114) ، ومسلم (1637) .
فلما لم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من المختلفين في فهم هذه النصوص ، بل ولم يحسم اختلافهم بتعيين المصيب منهما دل ذلك على مشروعية هذه الممارسات الاجتهادية ، ما دامت ضمن مناهج الاستدلال المشروعة .

وإنما نشأت النسبة الاسمية : حنفي ، مالكي ، شافعي ، حنبلي ، لتسهيل التعبير عن المدرسة التي تلقى عنها الفقيه فقهه ، واختصار التطويل في وصف الأصول التي بني عليها هذا المنتسب آراءه الفقهية ، بأقصر عبارة ، لا تتجاوز الكلمة ، يعبر فيها عن ” المدرسة ” التي يأخذ عنها فقهه ، إلى حين بلوغ مرتبة الاجتهاد المطلق إن تيسر له ذلك .

وهذه المدارس الفقهية ترجع في أصولها إلى مدارس الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، التي عرفت واشتهرت في القرن الأول ، كما قال ابن قيم الجوزية رحمه الله في ” إعلام الموقعين عن رب العالمين ” (1/ 17): ” فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر . وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس . وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود “.
ويقول ولي الله الدهلوي :
” وبالجملة فاختلفت مذاهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخذ عنهم التابعون ، كل واحد ما تيسر له ، فحفظ ما سمع من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومذاهب الصحابة وعقلها ، وجمع المختلف على ما تيسر له ، ورجح بعض الأقوال على بعض ، فعند ذلك صار لكل عالم من علماء التابعين مذهب على حياله ، وانتصب في كل بلد إمام مثل سعيد بن المسيب ، وسالم بن عبد الله بن عمر في المدينة ، وبعدهما الزهري والقاضي يحيى بن سعيد ، وربيعة بن عبد الرحمن فيها .
وعطاء بن أبي رباح بمكة .
وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، بالكوفة .
والحسن البصري بالبصرة .
وطاوس بن كيسان باليمن .
ومكحول بالشام .
فأظمأ الله أكبادا إلى علومهم ، فرغبوا فيها ، وأخذوا عنهم الحديث وفتاوى الصحابة وأقاويلهم ، ومذاهب هؤلاء العلماء وتحقيقاتهم من عند أنفسهم ، واستفتى منهم المستفتون ، ودارت المسائل بينهم ورفعت إليهم الأقضية .
وكان سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأمثالهما جمعوا أبواب الفقه أجمعها ، وكان لهم في كل باب أصول تلقوها من السلف .
وكان سعيد وأصحابه يذهبون إلى أن أهل الحرمين أثبت الناس في الفقه ، وأصل مذهبهم فتاوى عمر ، وعثمان وقضاياهما ، وفتاوى عبد الله بن عمر ، وعائشة ، وابن عباس ، وقضايا قضاة المدينة ، فجمعوا من ذلك ما يسره الله لهم ، ثم نظروا فيها نظر اعتبار وتفتيش .
وكان إبراهيم وأصحابه يرون أن عبد الله بن مسعود وأصحابه أثبت الناس في الفقه .
وأبو حنيفة أصل مذهبه فتاوى عبد الله بن مسعود ، وقضايا علي رضي الله عنه وفتاواه ، وقضايا شريح وغيره من قضاة الكوفة ، فجمع من ذلك ما يسره الله ، ثم صنع في آثارهم كما صنع أهل المدينة في آثار أهل المدينة ، وخَرَّج كما خَرَّجوا ، فتلخص له مسائل الفقه في كل باب ، باب ” انتهى باختصار من “الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف ” (ص: 30-33) .

والمقصود من هذه النقول هو الكشف عن حقيقة المذاهب الفقهية ، وأنها امتداد لمذاهب الصحابة الكرام والتابعين ، وليست إحداثا في الإسلام ، ولا تفريقا للأمة ، إذا فهمت في حدودها المدرسية ، بمعنى أن تعد وسيلة للتعلم والتفقه والتعبد ، إلى حين بلوغ الاجتهاد .
أما إذا تطورت هذه النسبة ، حتى صارت فرقا وطوائف ، كل منها يتعصب لما عنده فرحا به ، ويوالي ويعادي الناس بناء عليه ، ويعتزل الأمة ، ويتنكر لفضل مجموعها ، اغترارا بهذه النسبة حينها يصبح هذا الانتساب محرما ، وسببا للذم والشؤم على الفرد والأمة جميعها .
يقول ابن قدامة رحمه الله :
” أما بالنسبة إلى إمام في فروع الدين ، كالطوائف الأربع ، فليس بمذموم ، فإن الاختلاف في الفروع رحمة ، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم ، مثابون في اجتهادهم ، واختلافهم رحمة واسعة ، واتفاقهم حجة قاطعة ” انتهى من ” لمعة الاعتقاد ” (ص/42) .
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
” الجماعات التي تؤدي إلى تفرق الكلمة ، واختلاف القلوب ، جماعات باطلة .
وأما الجماعات التي لا تؤدي إلى ذلك ، كاختلاف المسلمين في المذاهب ، فهذا مذهبه حنبلي ، وهذا شافعي ، وهذا مالكي ، وهذا حنفي ، فإنها لا تضر ، ما دامت القلوب لم تختلف ” .
انتهى من ” لقاء الباب المفتوح ” (87/ 19، بترقيم الشاملة آليا) .
ويقول الشيخ صالح الفوزان :
” التمذهب بمذهب واحد من المذاهب الأربعة ، مذاهب أهل السنة الأربعة المعروفة ، التي بقيت وحفظت وحررت بين المسلمين ، والانتساب إلى مذهب منها ، لا مانع منه ، فيقال : فلان شافعي ، وفلان حنبلي ، وفلان حنفي ، وفلان مالكي .
ولا زال هذا اللقب موجودًا من قديم بين العلماء ، حتى كبار العلماء ، يقال : فلان حنبلي ، يقال مثلًا : ابن تيمية الحنبلي ، ابن القيم الحنبلي ، وما أشبه ذلك ، ولا حرج في ذلك ، فمجرد الانتساب إلى المذهب لا مانع منه ، لكن بشرط أن لا يتقيد بهذا المذهب فيأخذ كل ما فيه سواء كان حقًّا أو خطأً ” انتهى من ” مجموع فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان ” (2/ 701) .

وقد سبق في موقعنا العديد من الفتاوى المهمة ، نبين فيها أن التسمي بـ ” السلفية ” لا يخرج عن التفصيل السابق ، وأنه إن أدى إلى إحداث الفرقة والنزاع ، وإيهام الانفراد والشذوذ عن الأمة وعقيدتها ، فالأولى حينئذ الاقتصار على اسم ” الإسلام ” الذي سمانا الله عز وجل به . ينظر : (191402) ، (125476) ، (101366) .
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android