تنزيل
0 / 0
5071714/10/2015

تعددت عليها الفتاوى فأخذت بما اطمأنت إليه

السؤال: 229013

علمت أن العامي لا يملك الترجيح بين الأدلة ، وليس عليه سوى سؤال من يثق بعلمه . ولكن معنى ذلك أنه لا يستفتي قلبه أبدا ، ولا يحكم عقله إذا قرأ أدلة كل طرف . فأنا تعودت ألا أسأل شيخا بعينه ؛ لأن هناك شيوخا موثوقا بهم يكون لهم آراء شاقة وغير مبنية على فقه الواقع ، فألجأ إلى البحث في أدلة الطرفين ، مثل من يقول بخروج جميع الجماعات الإسلامية من الطائفة الناجية . فأصبحت أعتمد على شيئين : 1. اتباع الدليل . 2. التخفيف من مقاصد الشريعة . فأحيانا أسأل سؤالا فيجاب علي بإجابة أجدها متساهلة ، فأسأل من هو أكثر تشددا فإن جاوب علي بدليل واضح من الكتاب والسنة فآخذ برأيه ، والعكس ، أحيانا أسأل سؤالا فيجاب علي بإجابة أجدها شاقة ومتعنتة ، فأسأل شيخا آخر ، فإن كان رأيه أيسر (ويؤكده الدليل) آخذ به . ومثال على ذلك الرأي القائل بعدم إعادة الصلاة التي ترك صاحبها شرطا من شروط الصلاة جهلا ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بإعادة ما سبق عن جهل ، كما أن فيها مشقة لأنني كل فترة أكتشف خطأ كنت أفعله في الصلاة عن جهل ، فهل كل فترة سأقوم بتعويض الصلوات ، وهل سأقضي عمري كله في تعويض الصلاة ! وسؤالي هنا : هل ما أفعله صحيح ؛ وهو : اتباع العامي للدليل المقنع إذا شك فيما أفتي به ، والبعد عن الفتاوى التي فيها مشقة واضحة لأن التخفيف من مقاصد الشريعة ؟ وللتوضيح فأمثلتي على الآراء التي أعمل بها لوجود مشقة في الرأي المقابل لها ما يلي : عدم إعادة الصلاة لترك شرط من شروطها جهلا . عدم الحكم بالكفر على من استمع إلى الاستهزاء بالدين دون رضا . تغطية القدم بالجوارب دون إسدال العباءة في الصلاة وغيرها للقدرة على الحركة .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا :
الخطر الذي يجب على الجميع اجتنابه ، سواء كان عالما أو عاميا ، هو : الانتقاء لمجرد الهوى وموافقة الرغبة والشهوة ، وتقصد اختيار الفتاوى التي يتحلل بها المسلم من جميع القيود ، وتفتح له أبواب العفو عن كل التزام ، أو عن التزام ما يخالف هوى النفس ، أو يشق عليها فعله ، أدنى مشقة ؛ لأن نفسه الأمارة بالسوء تطلب ذلك وتهواه .
فمن كان هذا حاله فهو على خطر عظيم ؛ لأن مآل حاله إلى التحلل من الشرائع ، فالنفس لا يقف هواها عند حد ، فإن أصبحت هي المعيار الذي يحدد الاختيار بين الفتاوى فقد وجدت مشروعية ذلك الهوى الفاسد ، وحينئذ يصعب العلاج ، ويتعذر الدواء . قال تعالى : ( وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ) يوسف/53 ، وقال عز وجل : ( وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ص/26، وقال سبحانه : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) النازعات/40-41.
يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله :
" لا يجوز للمفتي أن يعمل بما يشاء من الأقوال والوجوه من غير نظر من الترجيح ولا يعتد به ، بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولا قاله إمام ، أو وجها ذهب إليه جماعة ، فيعمل بما يشاء من الوجوه والأقوال ، حيث رأى القول وفق إرادته وغرضه عمل به ، فإرادته وغرضه هو المعيار ، وبها الترجيح ، وهذا حرام باتفاق الأمة .
وهذا مثل ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه – ممن نصب نفسه للفتوى – أنه كان يقول : إن الذي لصديقي علي إذا وقعت له حكومة ، أو فتيا ، أن أفتيه بالرواية التي توافقه .
وقال : وأخبرني من أثق به ، أنه وقعت له واقعة ، فأفتاه جماعة من المفتين بما يضره ، وأنه كان غائبا ، فلما حضر سألهم بنفسه ، فقالوا : لم نعلم أنها لك . وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه .
قال : وهذا مما لا خلاف بين المسلمين ، ممن يعتد بهم في الإجماع ، أنه لا يجوز ، وقد قال مالك رحمه الله : في اختلاف الصحابة رضي الله عنهم : مخطئ ومصيب ، فعليك بالاجتهاد.
وبالجملة ، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي ، والتخير ، وموافقة الغرض ، فيطلب القول الذي يوافق غرضه ، وغرض من يحابيه ، فيعمل به ، ويفتي به ، ويحكم به ، ويحكم على عدوه ويفتيه بضده ، وهذا من أفسق الفسوق ، وأكبر الكبائر ، والله المستعان " .
انتهى من " إعلام الموقعين " (4/162) .
وهذا معنى ما نجده في كتب العلماء من تحريم " تتبع الرخص "، فالتتبع هنا مقصود ، يعني التلقُّط ، داعيتُه الهوى والرغبة النفسية ، وسببه البحث عن الترخص والتشهي والتحلل من الأحكام ، فهذا هو الممنوع والمحرم .
قال سليمان التيمي : " إن أخذت برخصة كل عالم ، اجتمع فيك الشر كله" .
وعلق عليه أبو عمر ابن عبد البر بقوله : "هذا إجماع ، لا أعلم فيه خلافا والحمد لله " .
انتهى من " جامع بيان العلم وفضله " (2/ 927) .
وسئل الإمام النووي رحمه الله :
" هل يجوز لمن تمذهب بمذهب أن يقلد مذهبًا آخرَ فيما يكون به النفع ، ويتتبع الرخص ؟
فأجاب بقوله :
" لا يجوز تتبع الرخص " انتهى من " فتاوى النووي "(ص: 235) .
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله :
" إذا صار المكلف في كل مسألة عنَّت له يتبع رخص المذاهب ، وكل قول وافق فيها هواه ؛ فقد خلع ربقة التقوى ، وتمادى في متابعة الهوى ، ونقض ما أبرمه الشارع ، وأخر ما قدمه " .
انتهى من " الموافقات " (3/ 123) .
ثانيا :
أما إذا نظر العامي في أدلة المجتهدين أو المفتين ، وراعى في نظره هذا محذور المشقة الخارجة عن المعتاد ، التي قد يؤدي إليها أحد الأقوال ، وتشكلت لديه قناعة معينة ، بسبب ما قرأ من تعليق العلماء وشرحهم ، وتوسعهم في الاستدلال لبعض أقوالهم ، فلا حرج عليه في تقليد ما اقتنع به ، ضمن هذه المعطيات .
كما لا بأس عليه في اتباع اختياره ، وإن وافق القول الأيسر ؛ لأنه لم يختر الأيسر بباعث الهوى والرغبة النفسية ، وإنما بباعث شرعي مقصود ، وهو اطمئنان القلب بالدليل المقنع ، وحسن الظن بالشريعة أنها لا تؤدي بالناس إلى العنت الخارج عن المعتاد، وليس تقصدا لتتبع الرخص أو الخروج عن التكاليف .
بل نحن ندعو العامي إلى سلوك هذا الطريق ، ولا نفضل أن يأخذ بقول من يفتيه مسلما ، بل نحثه على البحث والتأمل والتفكر ، ومحاولة الاطلاع على بعض أدوات البحث الشرعي ، ويستزيد من علومه الشرعية ، ولكن ضمن دائرة العلم والعلماء ، من غير اجتهاد مستقل ، وإحداث أقوال طارئة ، أو استطالة على العلماء وخروج عن أقوالهم .
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ، ففيه خمسة أوجه للأصحاب … الخامس : يتخير ، فيأخذ بقول أيهما شاء ، وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ، وعند الخطيب البغدادي ، ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا ، واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه … والظاهر أن الخامس أظهرها ؛ لأنه ليس من أهل الاجتهاد ، وإنما فرضه أن يقلد عالما أهلا لذلك ، وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما " انتهى من " المجموع " (1/56) .
فإذا أجاز العلماء للمستفتي تقليد من شاء بشرط أن يكون من الفقهاء المجتهدين ، وأن لا يتبع هواه وشهوته ، فمن باب أولى أن يقال بجواز تقليد من يطمئن العامي لتقليده لقوة أدلته واقتناعه بها .
وقد نقل الشافعية عن العلامة ابن دقيق العيد ، تجويزه لهذا النوع من الاختيار بين المفتين ، بشرط:
" انشراح صدره للتقليد المذكور ، وعدم اعتقاده لكونه متلاعبا بالدين ، متساهلا فيه ، ودليل اعتبار هذا الشرط قوله : ( والإثم ما حاك في نفسك )، فهذا تصريح بأن ما حاك في نفسك ففعله إثم " انتهى من " البحر المحيط " (8/377) .
وجاء في " المسودة في أصول الفقه " (ص: 518):
" إذا جوز للعامي أن يقلد من شاء ، فالذي يدل عليه كلام أصحابنا وغيرهم أنه لا يجوز له تتبع الرخص مطلقا ، فإن أحمد أثر مثل ذلك عن السلف ، وأخبر به ، فروى عبد الله بن أحمد عن أبيه قال : سمعت يحيى القطان يقول : لو أن رجلا عمل بكل رخصة بقول أهل المدينة في السماع ، يعنى في الغناء ، وبقول أهل الكوفة في النبيذ ، وبقول أهل مكة في المتعة ، لكان فاسقا " انتهى.
ثم يتأكد اتباع القول الأيسر : متى كان القول المقابل له يوقع المكلف في حرج ، أو مشقة خارجة عن المعتاد في شأن التكليف ، ولم يكن الدليل على ذلك القول بينا محكم الدلالة بالنسبة للمكلف المعين ، أو لم يبلغه دليل أصلا في المسألة ، أو تعارضت عليه وجوه الترجيح ، إن كان ينظر ويرجح ، أو تعارضت عليه أقوال المفتين ، وليس عنده ما يرجح بينها ؛ فلا حرج عليه في ذلك أن يبني ترجيح أحد القولين على التيسير ، ودفع المشقة ، ورفع الحرج ؛ فهذا أصل شرعي معتبر ، تكاثرت النصوص الشرعية في الدلالة عليه ، من حيث الجملة .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (223879) .
وللتوسع يمكنك النظر في الأرقام الآتية : (105721) ، (148057) ، (224164) .
وننبه هنا إلى أن المسائل الثلاثة التي ذكرتها في سؤالك قد سبق تقرير الجواب عليها في موقعنا:
ففي الفتوى رقم : (193034) بيان أن من تركت ستر قدميها في الصلاة لا يجب عليها قضاء ما سبق من الصلوات .
وفي الفتوى رقم : (153367) بيان أن الأكمل للمرأة ستر قدميها بثوبها الطويل ، ويجزئ عن ذلك لبسها الجوارب الساترة .
وفي الفتوى رقم : (149104)، بيان أن من استمع إلى الاستهزاء بالدين ، ورضي : فقد وقع في الردة .
وأما من استمع ، وأنكر بقلبه : فلم نجد من يقول بتكفيره ، وإن كان يلحقه الإثم إذا تمكن من المخالفة أو الإنكار ولم يفعل .
والله أعلم .

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

هل انتفعتم بهذه الإجابة؟

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android