سؤالي بخصوص الآية رقم/ 5 من سورة الملك، التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) إذ يقول ابن كثيرٍ في تفسيره : إنها تشير إلى النيازك ، وأنها مصنوعةٌ منها.
إلا إننا نعرف من خلال العلم أن النيازك ليست لها علاقة بالنجوم إطلاقًا ، وأنا أُدرك أنه لا يجوز الحكم على القرآن من خلال العلم ؛ لأن العلم متغير، ولكني أشعر أن لهذا القول سببًا وجيهًا؛ فلا يمكن للعلم أن يقرر ما إذا كان الشيء صحيحًا بنسبة (100%)؛ بل يمكنه أن يقرر خطأ هذا الشيء بنسبة (100%) ، فعلى سبيل المثال أن الأرض ليست مستوية. فنحن نعلم بنسبة (100%) أنها ليست مستوية ، إلا أنه لا يمكننا الجزم بأنها مستديرة بنسبة (100%).
لذا فما هو التأويل الصحيح لهذه المسألة ؟ فهذه هي الحجة الوحيدة التي يتداولها الكفار، والتي أشعر أنه من الصعب دحضها.
النيازك والأجرام المتحركة تسمى في اللغة العربية نجوما وكواكب
السؤال: 243871
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
هذا الشك أو الطعن لا نرى له وجها إطلاقا، ولا نعتقد أنه يستحق الوصف المذكور في السؤال، أنه “حجة يتداولها الكفار من الصعب دحضها”، لسبب يسير واضح لا يختلف فيه اثنان؛ ذلك أن اللغة العربية تطلق كلمة “النجم” على جميع الأجرام السماوية، فالشهاب نجم، والنيزك نجم، والكوكب نجم .
أما تخصيص اسم “نجم” بالجرم الضخم الثابت الملتهب المضيء بنفسه ، كالشمس، وتخصيص اسم “الكوكب” بالجرم الصلب غير الملتهب ، ككواكب المجموعة الشمسية، فهذا اصطلاح فلكي حادث جديد، لا ضير في اصطلاحه واستعماله؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح، ولكن من الغلط البيِّن محاكمة لغة القرآن الكريم إلى اصطلاحات المتأخرين، بل الواجب هو فهم القرآن الكريم بما تقتضيه اللغة العربية ، لأنها اللغة التي نزل بها القرآن ، ومن يغالط في هذا، حاله كحال من يفهم من كلمة (سيارة) في قوله تعالى: (وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ) يوسف/20، أنها هذه الآلة المعروفة اليوم التي يركبها الناس للسير بها بالطاقة الميكانيكية، ثم يعترض على القرآن بأن تاريخ صنع السيارات لم يكن على عهد يوسف عليه السلام، فكيف ذكرت السيارة فيه!
والجواب – هنا وهناك – : أنه لا بد من مراعاة اختلاف المفاهيم والمصطلحات، ولا بد من مراعاة لغة العرب التي نزل بها القرآن الكريم، فهي لا تعرف تخصيص كلمة “نجم” بالجرم المضيء، وإنما فيها أن الأجرام السماوية تنقسم إلى ثابت، ومتحرك ثاقب، ومضيء ومظلم، وكلها تسمى “نجوم”، هكذا جاء إطلاق القرآن الكريم، وفي الآية المذكورة من سورة الملك، قسمت النجوم إلى نوعين: نوع هي مصابيح للسماء تضيئها، وهي النجوم المضيئة المعروفة.
ونوع متحرك سيار، يشمل كل الشهب والنيازك والكواكب وغيرها، وهذه يسميها العرب “نجوما” أيضا.
فليس في الموضوع أي خطأ علمي، وإنما فيه تنوع في الدلالة والإطلاق والمعاني.
ولهذا كانت الهاء في قوله تعالى: (وجعلناها رجوما للشياطين) عائدة على جنس النجوم، والأجرام المتحركة ، وجميع الكواكب السيارة تسمى “نجوما” ، بلا تردد ، في اللغة العربية، فلا يوجد أي إشكال علمي في الآية الكريمة.
وهذه أقوال بعض أئمة اللغة العربية ، وأهل المعرفة بلسانها ، وطرائق بيانها :
يقول الفراهيدي رحمه الله:
“كل كوكب من أعلام الكواكب : يُسمى نجماً، والنُّجومُ تجمعُ الكواكب كلَّها” .
انتهى من ” العين” (6/154)
ويقول ابن سيده:
“النجم: الكوكب” انتهى من “المحكم والمحيط الأعظم” (7/ 469) .
ويقول ابن منظور:
“النجم في الأصل: اسم لكل واحد من كواكب السماء” انتهى من “لسان العرب” (12/ 570) .
ويقول الفيروزآبادي:
“النجم: الكوكب” انتهى من “القاموس المحيط” (ص: 1161) .
ويقول الزبيدي:
“(النجم) اللام فيه للجنس، وكذا لام الكوكب، أي: كل منهما يطلق على الآخر” .
انتهى من “تاج العروس” (4/ 157).
ومن الشعر الجاهلي يقول عامر المحاربي:
وكنا نجوما كلما انقض كوكب *** بدا زاهر منهن ليس بأقتما
ينظر “منتهى الطلب من أشعار العرب” (ص130) .
فتأمل كيف أطلق اسم “الكوكب” على ما ينقض ، أي يتحرك بسرعة وقوة منها.
ولتأكيد ذلك نسوق هنا – بعد الاستقراء – جميع موارد كلمتي “نجم”، و”كوكب” في القرآن الكريم، ليظهر فيها بدلالة واضحة ، مقدار الترادف بينهما، وأن الأجرام الفلكية المتحركة كالشهب والنيازك تسمى أيضا في اللغة العربية “نجوما” و”كواكب”.
(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) النجم/ 1 .
(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ. النَّجْمُ الثَّاقِبُ) الطارق/ 1 – 3 .
(إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ. وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ. لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى
وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ. دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ)
الصافات/ 6 – 10 .
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ
السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) الحِجر/ 16 – 18.
(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ
يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) الجن/ 8، 9 .
ومنه أيضا ما ورد في “صحيح مسلم” (رقم/220) عن حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: “كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِي انْقَضَّ الْبَارِحَةَ ؟” .
فسماه كوكبا ، رغم كونه ساقطا متحركا.
وبذلك يتبين أن الشهب والنيازك هي – في عرف العرب – تسمى كواكب ونجوم أيضا.
ولكن ليست جميع الكواكب والنجوم ، شهبا ونيازك .
ويؤكد ما سبق أيضا : هذه الآيات الكريمات التي تتحدث عن زينة السماء ، وهداية الطريق ، والتسخير للإنسان : كلها تسمى : “نجوم”، كما هي أيضا : “كواكب” ؛ فمن ذلك :
(وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) النحل/ 16 .
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) الأنعام/ 97 .
(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ) الأعراف/ 54 .
(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) النحل/ 12.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) الحج/ 18 .
(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) الصافات/ 88.
(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ) الطور/ 49.
(فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) الواقعة/ 75 .
(فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) المرسلات/ 8 .
(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) التكوير/ 1، 2 .
(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) الأنعام/ 76 .
(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) يوسف/ 4 .
(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ) الانفطار/ 1، 2 .
هكذا يتبين بكل سهولة لقارئ القرآن الكريم : أنه جرى على ما جرت عليه عراقة اللغة العربية من التوسع في إطلاق كلمة “النجم” على الأجرام السماوية بأنواعها.
ولا ينكَر وجودُ تفريق دقيق بين “النجم”، و”الكوكب” لدى بعض علماء اللغة، لكن مناط الفرق هو الحجم، أو الحركة ، وأقوال أخرى ، وليس هو المناط المعاصر ، الذي هو الإضاءة بذاته من عدمها.
كما أن وجود التفريق : لا ينفي بحال من الأحوال إطلاق “النجم” و “الكوكب” على الأجرام السيارة المتحركة كالشهب.
يقول العسكري رحمه الله:
“الكوكب : اسم للكبير من النجوم ، وكوكب كل شيء : معظمه .
والنجم : عام في صغيرها وكبيرها.
ويجوز أن يقال: الكواكب هي الثوابت. ومنه يقال: فيه كوكب من ذهب أو فضة؛ لأنه ثابت لا يزول.
والنجم : الذي يطلع منها ويغرب .
ولهذا قيل للمنجم: منجم ؛ لأنه ينظر في ما يطلع منها. ولا يقال له : مكوكب” .
انتهى من “الفروق اللغوية” (ص: 301) .
نرجو بهذا أن يزول الإشكال عن السائل الكريم بسهولة ووضوح.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب