أنا أعتقد بعدم صحة العمل بالحديث الضعيف ، وأستغرب كثيراً من حث المشايخ وبعض علماء زمننا الحاضر طلاب العلم على حفظ المتون العلمية التي تحتوي على أحاديث ضعيفة ، كالأربعين النووية ، وبلوغ المرام ، ومتن كتاب التوحيد ، هل من متون شبيهة بهذه المتون ولكن مع الإكتفاء بالصحيح من الحديث ، مثل عمدة الأحكام ؟ أرجو البسط ، والشرح ، والتوسع في الإجابة ، مع ذكر كلام أهل العلم المؤيدين أو المخالفين في مسألة حفظ المتون بغية العلم والفهم ، فأنا أتحفظ عن الأحاديث الضعيفة ؛ حتى لا تأخذ مكاناً في ذاكرتي ، وأنا على يقين بأن في الصحيح ما يفي بالغرض ، ولست من أهل الحفظ الأقوياء المكثرين .
أهمية حفظ بلوغ المرام وسبب إيراد الأئمة للأحاديث الضعيفة
السؤال: 257711
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
الحديث الضعيف لا يحتج به في الحلال والحرام اتفاقا، واختلف في العمل به في الفضائل، والمختار لدينا أنه لا يعمل به مطلقا. وانظر بيان ذلك في جواب السؤال رقم (131106)
ثانيا:
تنقسم الأحاديث الضعيفة – من حيث جزمنا بردها وضعفها – إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
أحاديث يجزم بردها وكذب نسبتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم : وهي نوعان :
1- أحاديث جاءت من طريق الرواة الكذابين والمتهمين ، أو شديدي الضعيف سيِّئِي الحفظ ، ويظهر في متنها نكارة لا يصدر مثلها عن النبي صلى الله عليه وسلم .
2- أو التي يُجزَم بخطأ راويها حين يخالف من هو أوثق منه أو أكثر عددا ، فيرفع الموقوف ، أو يسند المرسل ، أو يزيد وينقص في المتن أو الإسناد .
فهذه الأحاديث لا تكاد تجد منها شيئا في كتب أهل العلم المحققين ، إلا ما يذكرونه للتنبيه على وهنه ونكارته .
أما أن يكون في معرض الاستدلال والاستشهاد : فهذا لا يقع إلا نادرا على سبيل الوهم والخطأ ، الذي لا يخلو منه بشر .
القسم الثاني :
أحاديث ضعيفة بسبب وجود راو ضعيف أو مجهول محتمل الضعف ، أو بسبب انقطاع يسير ، مع عدم وجود نكارة في المتن مناقضة للثابت من الشريعة .
وهذا القسم لا يجزم العلماء برده وتكذيب نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، بل يعتبرون احتمال صدوره عنه صلى الله عليه وسلم قائما ، إذ قد يحفظ الراوي الضعيف ويصيب ، كما قد يكون الراوي الساقط من الإسناد أو الراوي المجهول ثقة ، فيحكمون بقبول الحديث إذا اجتمعت بعض القرائن التي تقوي هذين الاحتمالين، كتعدد الطرق ومجيئه من غير وجه .
القسم الثالث :
أحاديث مختلف فيها ، مترددة بين القسمين السابقين ، وبين قسم الحديث الحسن والمقبول ، فيكون ذكر أهل العلم لها في كتبهم من باب اعتبار هذا الخلاف ، أو ترجيح قبول الحديث أو على الأقل عدم الجزم برده .
وقد سبق الكلام على هذه الأقسام بشيء من التوسع في جواب السؤال رقم (105726) فراجعه.
وإذا علمت ذلك، تبين لك وجه إيراد الأئمة لبعض الأحاديث الضعيفة في كتبهم، ويمكن تلخيص ذلك فيما يلي:
1-أن يكون الحديث من القسم الثالث المختلف فيه، فيرى الإمام صحته أو حسنه، فيورده في كتابه.
2-أن يكون من القسم الثاني الذي يتقوى بالمتابعات أو الشواهد، ويقف المؤلف على شيء من هذه المتابعات أو الشواهد فيصحح الحديث أو يحسنه. وقد يأتي بعده من يخالفه، فيضعف الحديث ويرى أنه مما لا ينجبر بالمتابعات.
3-أن يكون الحديث معلوما ضعفه لدى المؤلف، لكن يورده لبيان ضعفه؛ لأنه مما شاع احتجاج الفقهاء به مثلا، أو لأنه قد يصلح شاهدا أو متابعا يستفاد منه في تقوية غيره.
4-أن يكون المؤلف ممن يذهب إلى العمل بالضعيف في الفضائل.
5-أن يكون الحديث محتملا للصحة، ولا يجزم المؤلف بحكمه، فيورده في كتابه لينظر فيه غيره.
6- أن يكون الضعف في إسناده يسيرا ، لم يوره كذاب ، ولا وضاع ، ولا يكون في متنه نكارة ، ويكون الحديث أصلا في بابه ، أو تشهد له الأصول الشرعية .
إلى غير ذلك من المقاصد المعتبرة التي جعلت المؤلفين يوردون بعض الأحاديث الضعيفة في مصنفاتهم.
ثانيا:
الكتب التي ذكرتها وهي الأربعون النووية، وبلوغ المرام، وكتاب التوحيد، كتب عظيمة نافعة، ولا يقلل من شأنها ما فيها من الضعيف ، وهو قليل، ولا يخرج سبب إيراد الضعيف فيها عما ذكرنا آنفا.
وفي حفظ هذه الكتب نفع كبير؛ لأنها أحاديث مختارة، وهي أصل في بابها، ولأهل العلم عناية بشرحها، فهذا خير من حفظ كتاب لم يعتن به أهل العلم.
ومعرفتك بضعف الحديث الوارد فيها –إن ثبت ضعفه- فيه فائدة ظاهرة، ليتسنى لك بيان ضعفه، وضعف ما بني عليه.
وانظر كم أفاد الأئمة من معرفتهم بأحوال الرجال وحفظ الأسانيد الصحيحة والضعيفة معا، ليبينوا حالها، ويكشفوا أمرها، فلا تبقى خافية أو ملتبسة.
سئل الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله: ” عند حفظي لمتن البلوغ هل أحفظ الأحاديث الضعيفة أم أتركها اختصاراً؟
فأجاب: احفظ كل شيء، احفظ الصحيح والضعيف، والإمام البخاري -رحمة الله عليه- يحفظ مائة ألف حديث صحيح، ويحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، والعلم بالشيء لا شك أنه يقيك الزلل. لو احتج عليك محتج، أو استدل عليك مستدل بهذا الحديث الضعيف، وأنت ما حفظته ولا تعرف ضعفه، ما كانت لك حجة .
فمن اعتنى بكتاب: يحفظه كاملاً من أوله إلى آخره” انتهى من شرح بلوغ المرام (12/ 18) ترقيم الشاملة.
وقد ذكر النووي رحمه الله سبب إيراد الأئمة لأحاديث الضعفاء والمتروكين، مما يفيد هنا، فقال:
“قد يقال: لم حدث هؤلاء الأئمة عن هؤلاء مع علمهم بأنهم لا يحتج بهم؟
ويجاب عنه بأجوبة:
أحدها: أنهم رووها ليعرفوها وليبينوا ضعفها ، لئلا يلتبس في وقت عليهم ، أو على غيرهم ، أو يتشككوا في صحتها.
الثاني: أن الضعيف يكتب حديثه ليعتبر به ، أو يستشهد ، كما قدمناه في فصل المتابعات ولا يحتج به على انفراده.
الثالث: أن روايات الراوي الضعيف : يكون فيها الصحيح والضعيف والباطل، فيكتبونها ، ثم يميز أهل الحديث والإتقان بعض ذلك من بعض، وذلك سهل عليهم معروف عندهم .
وبهذا احتج سفيان الثوري رحمه الله حين نهى عن الرواية عن الكلبي .
فقيل له: أنت تروي عنه؟ فقال: أنا أعلم صدقه من كذبه.
الرابع: أنهم قد يروون عنهم أحاديث الترغيب والترهيب ، وفضائل الأعمال ، والقصص ، وأحاديث الزهد ومكارم الأخلاق ، ونحو ذلك مما لا يتعلق بالحلال والحرام ، وسائر الأحكام، وهذا الضرب من الحديث : يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل فيه، ورواية ما سوى الموضوع منه، والعمل به؛ لأن أصول ذلك صحيحة مقررة في الشرع ، معروفة عند أهله.
وعلى كل حال : فإن الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئا يحتجون به على انفراده في الأحكام؛ فإن هذا شيء لا يفعله إمام من أئمة المحدثين ، ولا محقق من غيرهم من العلماء.
وأما فعل كثيرين من الفقهاء ، أو أكثرهم ، ذلك ، واعتمادهم عليه : فليس بصواب، بل قبيح جدا . وذلك لأنه إن كان يعرف ضعفه : لم يحل له أن يحتج به؛ فإنهم متفقون على أنه لا يحتج بالضعيف في الأحكام.
وإن كان لا يعرف ضعفه ، لم يحل له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه ، بالتفتيش عنه إن كان عارفا، أو بسؤال أهل العلم به ، إن لم يكن عارفا، والله أعلم” انتهى من شرح مسلم (1/ 125).
ثم إن الضعيف في الكتب المذكورة : يسير، فلا خوف على امتلاء الذاكرة منه !
ويمكنك حفظ كتاب “عمدة الأحكام” فهو كتاب عظيم نافع ، معتمد ، مقتصر على ما في الصحيحين .
لكن يفوتك بذلك أحاديث مهمة اعتمدها الفقهاء، وكان لابن حجر رحم الله عناية فائقة بها، وجودة في اختيار ألفاظها، والحكم على أكثرها.
وكثير من مشايخنا يوصون بالجمع بين الكتابين، فتبدأ بحفظ العمدة، ثم البلوغ.
سئل الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي حفظه الله، عمن حافظته وسط، هل يحفظ العمدة أو البلوغ
فقال: ” احفظ العمدة لأنها صحيحة وستتسع حافظتك، ثم احفظ البلوغ، ثم تترقى لما بعدها” انتهى نقلا عن:
http://majles.alukah.net/t74354/
وسئل الشيخ عبد الكريم الخضير حفظه الله: ” شرعت في حفظ عمدة الأحكام -ولله الحمد- إن كان شرعت ، هل تنصح أن أستمر أو أبدأ بحفظ بلوغ المرام؟
فأجاب: لا، استمر؛ لأن أحاديث العمدة أصح، شرط مؤلفها أن تكون أحاديثها من الصحيحين .
نعم ؛ في البلوغ أحاديث زائدة في غير الصحيحين من السنن، سواءً كانت السنن الأربعة أو البيهقي أو الدارقطني، وغيرها من الكتب يحتاجها طالب العلم، وهي لا توجد في العمدة، فإذا .. فرغ من حفظ العمدة وهي أساس متين لأحاديث الأحكام ، يشرع بعد ذلك بحفظ البلوغ .
ثم بعد ذلك إذا كانت الحافظة تسعف لحفظ الكتب المسندة ، فذلك المطلوب” انتهى من شرح بلوغ المرام (16/ 2).
وسئل أيضا: ” هل يقدم حفظ البلوغ أم الجمع بين الصحيحين؟
فأجاب: حفظ البلوغ باعتبار أن فيه أحاديث يحتاجها طالب العلم، وهي لا توجد في الصحيحين، وهي منتقاة من كتب كالبيهقي والدارقطني وابن حبان والحاكم وغيرها من الكتب ، تنفع طالب العلم، ثم بعد إذا حفظه وفهمه يقرأ الكتب الأصلية” انتهى من شرح بلوغ المرام (38/ 20).
وقال حفظه الله عن أهمية حفظ البلوغ: ” فإذا وفق الإنسان ، وحفظ هذا الكتاب، وحفظ معه متناً من المتون الفقهية -وليكن الزاد مثلاً- وحفظ مع ذلكم من أحاديث الآداب ما يحتاج إليه من رياض الصالحين، وذلكم بعد حفظ كتاب الله -سبحانه وتعالى- فقد جمع أطراف العلم، واستحق إن أوتي فهماً مناسباً بعد ذلك : الفتيا والقضاء وما أشبه ذلك من الولايات الشرعية” ” انتهى من شرح بلوغ المرام (1/ 12).
فاستعن بالله تعالى، واحفظ الأربعين والتوحيد والعمدة والبلوغ، ففي ذلك خير عظيم إن شاء الله.
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة