أريد أن أسال عن سيدنا يعقوب عليه سلام في قصته مع أولاده ويوسف عليه سلام ، وذلك أنه عندما طلب منه أولاده أن يرسل يوسف معهم وافق على ذلك ، مع علمه بأنهم يغارون منه ، ثم بعد ذالك عندما طلبوا منه أن يرسل معهم أخا يوسف أيضا وافق على ذالك ، مع أنهم خانوه في المرة الأولى ، فما الحكمة وراء ذالك ؟
يسأل : كيف وثق يعقوب عليه السلام في أبنائه مرة أخرى وأرسل معهم أخو يوسف في المرة الثانية ؟
السؤال: 262501
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
أما أخذهم ليوسف في المرة الأولى، فإنما كان بعد مراجعة ليعقوب عليه السلام، وإلحاح في أخذه معهم . قال الله تعالى : ( قَالُوا يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ ) يوسف /11-14
قال ابن كثير رحمه الله : ” وقد أخذوه من عند أبيه ، فيما يظهرونه له إكراما له، وبسطا وشرحا لصدره، وإدخالا للسرور عليه .
فيقال: إن يعقوب عليه السلام، لما بعثه معهم ضمه إليه، وقبله ودعا له…
قال الله تعال: (وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) يقول تعالى ذاكرا لطفه ورحمته وعائدته ، وإنزاله اليسر في حال العسر: إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق، تطييبا لقلبه، وتثبيتا له: إنك لا تحزن مما أنت فيه، فإن لك من ذلك فرجا ومخرجا حسنا، وسينصرك الله عليهم، ويعليك ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع” . انتهى. “تفسير ابن كثير” : (4/ 374)، وانظر تفسير الطبري: (13/ 29).
وقال ابن عاشور: ” تفريع حكاية الذهاب به والعزم على إلقائه في الجب على حكاية المحاورة بين يعقوب- عليه السلام- وبنيه في محاولة الخروج بيوسف- عليه السلام- إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب- عليه السلام- حتى أقنعوه فأذن ليوسف- عليه السلام- بالخروج معهم، وهو إيجاز”، التحرير والتنوير: (12/ 233).
ثانيًا:
وأما في المرة التالية ، فقد قص الله شأن إخوة يوسف ، مع أخيهم بنيامين، وكيف حاولوا مع أبيهم ، حتى وافقهم في نهاية الأمر ، وأسلم لهم أخاهم بنيامين ، بناء على ما ذكروه من رغبة وحاجة .
قال معين الدين الإيجي رحمه الله :
” (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ): بعد ذلك إن لم نذهب بأخينا .
(فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ): نحن وهو الطعام، ونرفع المانع من الكيل . (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) .
(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلا كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ) : فإنكم ذكرتم في يوسف مثل ما ذكرتم هنا بعينه ؛ فهل يكون أماني هنا إلا كأماني هنالك ؟ أي : كما لا يحصل الأمان هناك، لا يحصل هنا!
(فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا) فأعتمد عليه .. (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ): فالله أسأل أن يرحمني بحفظه … “
ثم قال :
” (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ)، تعطوني، (مَوْثِقًا مِنَ اللهِ): عهدًا مؤكدًا بذكر الله تعالى، (لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) جواب القسم إذ معناه حتى تحلفوا لَتَأْتُنَّنِي، (إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ): إلا أن تغلبوا فلا تقدروا على إتيانه أو إلا أن تهلكوا جميعًا ، أي: لتأتنني على كل حال ، إلا حال الإحاطة بكم، (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ): يعقوب، (اللهُ عَلَى مَا نَقُولُ): من العهد، (وَكِيلٌ): مطلع ويمكن أن يكون معناه الله تعالى وكيل على حفظ ذلك العهد نَكِلُ أمره إليه ” انتهى، “جامع البيان” للإيجي (2/226) .
فيعقوب عليه السلام ، إنما سلمه إليهم لما ذكروه من الحاجة إلى بعثه معهم ، وهو لم ينس ما فعلوه أول مرة ، ولكنه استوثق منهم ، بما استطاع من أيمانهم ، وعهودهم ؛ وتوكل على الله في حفظ ولده ورده إليه ، فبحفظ الله وكفايته كانت ثقته ، لا بمجرد الأيمان التي بذلوها .
جاء في التفسير الوسيط ، ط مجمع البحوث الإسلامية (5/352) :
” (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ ) :
أَي : لم يحدث منكم ما يقتضي الاطمئنان على وعودكم، فقد وعدتموني من قبل بالمحافظة على أَخيه يوسف ، وجئتموني بدونه ، وزعمتم أَن الذئب أكله ؛ فهل آمنكم على بنيامين إلا بالصورة التي أَمنتكم بها على أَخيه. دون أَي يتغير حالكم، ويدعوني إلى الاطمئنان لوعودكم ؟!
(فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) : أَي فالله خير منكم ، ومن سواكم ، حافظًا، وهو أَرحم الراحمين، فلذا أَكِل أَمر حفظه إِلى فضله ورحمته سبحانه، ولا أَعتمد في ذلك عليكم ، فقد جربتكم فما وجدت فيكم وفاءً بوعد، ولا حفظًا لعهد.” انتهى .
وقيل : بل تغيرت حالهم ، وظهر من قرائن صدقهم : ما ساعد على أن يسلمه إليهم ، ويستأمنهم عليه ، حتى قيل : إنهم نزلت عليهم النبوة في هذا الوقت ، وإن كان الأظهر أن ذلك لم يكن ، وأنهم لم يكونوا أنبياء . لكن : ليس أقل من أنهم من أهل بيت نبوة ، وأن نوازع الشر ليست مستمكنة فيهم ، وإن نزغ الشيطان بينهم وبين أخيهم يوسف ، حتى كان منهم ما كان .
قال ابن عطية رحمه الله : ” وتألم يعقوب عليه السلام من فرقة بنيامين، ولم يصرح بمنعهم من حمله، لما رأى في ذلك من المصلحة، لكنه أعلمهم بقلة طمأنينته إليهم. وأنه يخاف عليه من كيدهم، ولكن ظاهر أمرهم أنهم كانوا نبئوا ، وانتقلت حالهم، فلم يخف كمثل ما خاف على يوسف من قبل، لكن أعلم بأن في نفسه شيئا، ثم استسلم لله تعالى، بخلاف عبارته في قصة يوسف.” انتهى، “المحرر الوجيز” (3/259-260) .
وقال أبو حيان رحمه الله : ” وَلَمْ يُصَرِّحْ بِمَنْعِهِ مِنْ حَمْلِهِ لَمَّا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ. وَشَبَّهَ هَذَا الِائْتِمَانَ فِي ابْنِهِ هَذَا بِائْتِمَانِهِ إِيَّاهُمْ فِي حَقِّ يُوسُفَ. قُلْتُمْ فِيهِ: وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، كَمَا قُلْتُمْ فِي هَذَا، فَأَخَافُ أَنْ تَكِيدُوا لَهُ كَمَا كِدْتُمْ لِذَلِكَ، لَكِنَّ يَعْقُوبَ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ كَمَا خَافَ عَلَى يُوسُفَ، وَاسْتَسْلَمَ لِلَّهِ وَقَالَ: فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا” انتهى، “البحر المحيط” (6/259) .
والحاصل :
أن الحاجة كانت داعية لإرسال أخيهم معهم في المرة الثانية ، والمصلحة كانت في ذلك ظاهرة ، وقد تغلب يعقوب عليه السلام على داعي الخوف والوجل منهم : بما أخذه عليهم من العهود والمواثيق . مع أن حالهم مع بنيامين ، لم تكن داعية لأن يفعلوا به مثل ما فعلوا بيوسف عليه السلام ، لا سيما وقد رأوا من وجد أبيهم به ، وحزنه عليه ، ما يمنعهم من معاودة ذلك .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب