0 / 0

إذا كان الكمال في النساء عزيزاً، ولم تبلغه إلا بضع نسوة؛ فكيف لغيرهن الوصول إلى الفردوس الأعلى ؟

السؤال: 283518

انا أريد الفوز بجنّة الفردوس وأحقّق الكمال في الإيمان، و أقوم بأفضل ما أستطيع لأكون الأقرب من الله. لكن بعد قراءتي لهذا الحديث يتبيّن لي أنّه من المستحيل أن أفعل ذلك. “عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كمل من الرجال كثيرٌ ولم يكمل من النساء غير مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) صحيح البخاري، 3769 هل هذا يعني أنّ كل ما أفعله لن يحقّق الكمال في الإيمان؟ هل لن يكون باستطاعتي أبداً أن أصل لما كانت عليه آسية، مريم، خديجة، وفاطمة رضي الله عنهن، النساء الأربع الفاضلات؟ لديّ سؤالٌ آخر، السؤال الآخر هو أن القرآن الكريم قد أشاد بمريم (رضي الله عنها) ” وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ” (3:42)، هل هذا يعني أنها أفضل من الثلاثة الأخريات في الحديث؟ مريم كما تعلّمتُ قد أُشيد بها بسبب عذريتها، والعزلة عن الرجال، والإلتزام الكامل في العبادة حيث كانت تتحرّر من جميع الشؤون الدنيوية. كيف يمكنني ممارسة هذا إذا كان يتمّ التشجيع على الزواج، والرهبانية محظورةٌ في الإسلام؟ لماذا أُشيد بمريم بهذه الممارسات بينما نتعلم عدم متابعتها في الإسلام؟

ملخص الجواب

الكمال ليس منزلة واحدة ، وليس درجة واحدة ، من حازها ، فقد فاتت الآخرين ، ولم يعد لهم سبيل إلى الكمال . بل المشروع للعباد : أن يسعوا في طلب الكمال الممكن لهم ، ونيل الفضائل الممكنة ، باتباع ما شرعه الله لعباده ، والرضا بقدره واختياره .

الجواب

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.

أولا:

نصوص الوحي في الفضائل والمناقب كحديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ   رواه البخاري (3411) ، ومسلم (2431).

وكحديث عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ:   خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ   رواه البخاري (3432) ومسلم (2430).

وكحديث أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:  حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ العَالَمِينَ: مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ   رواه الترمذي (3878) وقال: “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ”.

فهذه الأحاديث لم تذكر لإقعاد النساء عن المسابقة في الخيرات؛ فلم تنص ولم تشر إلى أن غير المذكورات لا يمكنهن السعي في القرب من الله تعالى ونيل الفردوس الأعلى.

وإنما غاية هذه الأحاديث أنها تثبت لهؤلاء المذكورات رتبا من الخيرية لم يصل إليها غيرهن، ونصوص الوحي تشير إلى أنه أيضا لن يصل إليها غيرهن؛ كما يشير حديث ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ؛ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ ابنةُ عِمْرَانَ   رواه الإمام أحمد في “المسند” (4 / 409) و النسائي في “السنن الكبرى” (8297)، والحاكم في “المستدرك” (3 / 160)، وقال: ” هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه “، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ ابن حجر في “فتح الباري” (7 / 135)، والألباني في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” (4 / 13).

فهذه النصوص ذكرت لبيان فضل الله على بعض خلقه، كما بيّن الله مكانة الأنبياء التي لا يدركها غيرهم من الرجال، وكمكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي لن يدركها غيره من هذه الأمة بإجماع الأمة .

لكن هذه الدرجة من “الكمال” التي خص الله بها من شاء من عباده ، سواء كان كمال النبيين ، أو كمال الصديقين المقربين : لا يعني أن أبواب “الكمال الممكن” لمن بعدهم ، قد أغلقت ، فلم يعد هناك سبيل لنيل درجات الكمال الذي أحبه الله من عباده ، وشرعه لهم .

وقد قال الله تعالى في وصف أصحاب الجنة ( المقربين ) :  ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ   الواقعة/13-14 .

ثم قال عن أصحاب اليمين :  ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ   الواقعة/39-40 .

ووعد عباده الذي يعلمون الصالحات ، أنه لن ينقص من أجر عملهم شيئا :

 وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا  طه /112

بل وعدهم بمقام الفضل ، فوق ذلك :

 إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا  النساء /40

فلم يضيع عليهم من سعيهم شيئا ، بل ضاعفه لهم !!

بل شكر للمتأخرين سعيهم في نيل منازل الإيمان ، وطلب الكمال المشروع الذي يقدرون عليه ، متابعة للصديقين الأولين :

 وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  التوبة/100

وينظر للفائدة جواب السؤال رقم (81279) ورقم (3374).

فالمسلك الصحيح في التعامل مع هذه النصوص هو أن  على المسلم أن يجعلها سببا لدخول الجنة ولرفع مرتبته فيها؛ وذلك بأن يرضى بحكم الله تعالى وبأن يحب من أحبّ اللهُ تعالى؛ كما مدح الله تعالى أهل الإيمان:

 وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ الحشر /10).

وحاصل ذلك :

أن المسلمة إن أحبّت في الله هؤلاء النسوة اللواتي اصطفاهن الله تعالى ، وأخلصت في ذلك؛ وسعت في التشبه بهم ، في السعي إلى مرضاة الله ، ونيل رضوانه ، والعمل بما شرعه الله لها ، وأحبه منها : فإنها مبشرة بمرافقتهن في الجنة.

عن عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ” جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ “رواه البخاري (6169) ، ومسلم (2640).

وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ” أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟

قَالَ:  وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟

قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فَقَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ، قَالَ أَنَسٌ:” فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ  ، قَالَ أَنَسٌ: فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ ” رواه البخاري (3688) ، ومسلم (2639).

ثم إن هذه النصوص لا تدل على أن من فاتها هذا الكمال فاتها الفردوس؛ فالمسلمة قد تنال الفردوس وإن لم تصل إلى كمال مريم عليها السلام؛ إذا سلكت طريق الفردوس الذي وصفه الوحي في قول الله تعالى:   قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ  المؤمنون /1 – 11.

قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

” ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات التي قدمنا هم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون؛ لدلالة قوله: ( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) عليه. والفردوس: أعلى الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن جل وعلا ” انتهى، من “أضواء البيان” (5 / 848).

ثانيا:

مدح الله تعالى مريم عليها السلام؛ بأنها أحصنت فرجها، وكانت من القانتين.

قال الله تعالى:  وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ  التحريم /12.

وقوله تعالى: الَّتِي أَحْصَنَتْ  عن الفواحش والحرام.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

” أي حفظته وصانته. والإحصان: هو العفاف والحرية ” انتهى، من “تفسير ابن كثير” (8 / 173).

ويحتمل أن المراد به أيضا أنها زهدت في الزواج تفرغا للعبادة.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

” فقال: ( وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا ) أي: حفظته من الحرام وقربانه، بل ومن الحلال، فلم تتزوج لاشتغالها بالعبادة، واستغراق وقتها بالخدمة لربها ” انتهى، من “تفسير السعدي” (ص 530).

والذي يظهر أن هذا أمر كان مشروعا في شرعهم، كما مدح يحيى عليه السلام باعتزاله للنساء ، تفرغا للعبادة على ما فسره جماعة من أهل العلم لكلمة ( حَصُورًا )، في قوله تعالى:

( هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ، فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران (38 – 39).

فمريم عليها السلام إنما مُدحت بتمام طاعتها لربها ، بما شرع الله لها ولأهل زمانها من الطاعات.

ومن المعلوم : أن أحكام الشرع قد تتغير ، من شريعة إلى أخرى لحكمة أرادها الله تعالى، مع الإتفاق بين هذه الشرائع في التوحيد والأصول العامة؛ قال الله تعالى:

( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) المائدة (48).

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

” ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ ) أيها الأمم جعلنا ( شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ) أي: سبيلا وسنة، وهذه الشرائع التي تختلف باختلاف الأمم، هي التي تتغير بحسب تغير الأزمنة والأحوال، وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها، وأما الأصول الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان، فإنها لا تختلف، فتشرع في جميع الشرائع.

( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ) تبعا لشريعة واحدة، لا يختلف متأخرها و لا متقدمها.

( وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ) فيختبركم وينظر كيف تعملون، ويبتلي كل أمة بحسب ما تقتضيه حكمته، ويؤتي كل أحد ما يليق به … ” انتهى  “تفسير السعدي” (ص 234).

وحينئذ ، فمن المعلوم أن الزواج من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وشرعه الذي جاء به ، وأنه لا رهبانية في الإسلام ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد من أصحابه في “التبتل” .

روى البخاري (5073) ، ومسلم (1402) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: رَدَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لَاخْتَصَيْنَا .

وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه الذين أرادو التفرغ لعباده ، ومخالفة هديه صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك :

فعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال:  ” جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا .

فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي   رواه البخاري (5063) ، ومسلم (1401).

قال الإمام أبو بكر ابن العربي رحمه الله ، في الرد على من فضل التبتل على النكاح ، واحتج بحال يحي عليه السلام :

” وهذا كله لا يُحتاج إليه ، ولا يصح الاحتجاج به ، مع ما قدمنا من الآثار الصحاح .

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من رغب عن سنتي فليس مني ) .

فجعل النكاح سنة مطلقة ، وعبادة مبتدأة ، ولم يجعله معاملة ، ولا أخرجه مخرج الأكل بالعادة والجبلة … ؛ لا سيما وقد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه التخلي للعبادة …

وأما تعلقه بقصة يحي عليه السلام ؛ فذلك شرع من قبلنا ، لا شرعنا ..” انتهى  من “سراج المريدين” (1/175) .

واختيار الأحسن من النوافل والطاعات ليس مقياسه مدى المشقة والتعب فيها، وإنما مدى مشروعيتها ومدى الصلاح الذي تنتجه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

” والاعتبار في ذلك بما جاء به الكتاب والسنة، لا بما يستحسنه المرء أو يجده أو يراه من الأمور المخالفة للكتاب والسنة؛ بل قد يكون أحد هؤلاء كما قال عمر بن عبد العزيز: من عبد الله بجهل، أفسد أكثر مما يصلح.

ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس، وحملها على المشاق، حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل،  كما يحسب كثير من الجهال أن الأجر على قدر المشقة في كل شيء، لا! ولكن الأجر على قدر منفعة العمل، ومصلحته، وفائدته، وعلى قدر طاعة أمر الله ورسوله. فأي العملين كان أحسن، وصاحبه أطوع، وأتبع، كان أفضل. فإن الأعمال لا تتفاضل بالكثرة. وإنما تتفاضل بما يحصل في القلوب حال العمل.

ولهذا لما نذرت أخت عقبة بن عامر أن تحج ماشية حافية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الله لغني عن تعذيب أختك نفسها، مرها فلتركب )… وكذا حديث جويرية في تسبيحها بالحصى، أو النوى، وقد دخل عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحال. وقوله لها: ( لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات، لو وزنت بما قلت منذ اليوم لرجحت )…

فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل، والاقتصاد، والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها، كالفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، فمن كان كذلك فمصيره إليه إن شاء الله تعالى … ” انتهى من”مجموع الفتاوى” (25 / 281 – 283).

وحاصل الجواب :

أن الكمال ليس منزلة واحدة ، وليس درجة واحدة ، من حازها ، فقد فاتت الآخرين ، ولم يعد لهم سبيل إلى الكمال .

بل المشروع للعباد : أن يسعوا في طلب الكمال الممكن لهم ، ونيل الفضائل الممكنة ، باتباع ما شرعه الله لعباده ، والرضا بقدره واختياره .

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر

موقع الإسلام سؤال وجواب

at email

النشرة البريدية

اشترك في النشرة البريدية الخاصة بموقع الإسلام سؤال وجواب

phone

تطبيق الإسلام سؤال وجواب

لوصول أسرع للمحتوى وإمكانية التصفح بدون انترنت

download iosdownload android