ما معنى قوله تعالى : (لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) الواقعة/79 ؟ مع توضيح علاقة الآية بمسألة مس المصحف بدون وضوء ؟
الكلام على قوله تعالى: ( لا يمسه إلا المطهرون )، وبيان وجه الاستدلال منها
السؤال: 288478
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولًا:
اختلف أهل التفسير في المراد بقوله تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ الواقعة/79 :
1- فذهب بعضهم إلى أنهم الملائكة .
وذكر الطبري أن هذا قول: ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي نهيك، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم.
2- وقال بعضهم: هم الذين قد طهروا من الذنوب كالملائكة والرسل .
وذكره الطبري عن أبي العالية، وابن زيد .
3- وقال بعضهم: لا يمسه عند الله إلا المطهرون .
وذكره الطبري عن قتادة، أنه قال: ” ذاكم عند رب العالمين، فأما عندكم فيمسه المشرك النجس، والمنافق الرجس ” .
واختار الطبري العموم، فقال: “والصواب من القول من ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه، أخبر أن لا يمس الكتاب المكنون إلا المطهرون ، فعم بخبره المطهرين، ولم يخصص بعضا دون بعض؛ فالملائكة من المطهرين، والرسل والأنبياء من المطهرين ، وكل من كان مطهرا من الذنوب، فهو ممن استثني، وعني بقوله: إلا المطهرون ” انتهى من “التفسير”(22/ 366).
وهذا على القول بأن الكتاب المكنون في الآية السابقة في السماء .
واختار بعض العلماء أن المراد بالطهارة هنا الطهارة من الأحداث، يقول الإمام الواحدي:
” أكثر المفسرين على أن الكناية في قوله (لا يمسه) تعود إلى الكتاب المكنون، وهو اللوح المحفوظ.
والمطهرون هم الملائكة، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء، وباذان، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والضحاك، والكلبي، وقتادة، ومقاتل، قالوا: المطهرون الملائكة طهروا من الشرك والذنوب والأحداث والنجاسات .
فالذي في السماء لا يمسه إلا المطهرون، وأما كتابنا فيمسه الطاهر وغير الطاهر، وهو اختيار الفراء والزجاج، قالا: لا يمس ذلك اللوح المحفوظ إلا الملائكة.
والمعنى على هذا القول : أن النسخة التي في السماء من القرآن : مكنون مصون لا يصل إليه أحد، ولا يمسه إلا الملائكة الذين وصفوا بالطهارة .
ومذهب الفقهاء في هذه الآية أن الضمير في قوله: (لَّا يَمَسُّهُ) يعود إلى القرآن، والمراد بالقرآن المصحف …. والمراد بقوله: (الْمُطَهَّرُونَ) أي من الأحداث والجنابات .
وقالوا: قوله: (لا يَمَسُّهُ) خبر في معنى النهي ، ومنعوا بهذه الآية الجنب والحائض والمحدث من مس المصحف وحمله، وإن كان بعلاّقة أو في غلاف .
وهذا قول محمد بن علي، وعطاء، وطاووس، وسالم، والقاسم، وعبد الرحمن بن الأسود، وإبراهيم، وسفيان، ومذهب مالك، والشافعي ” انتهى من “التفسير البسيط”(21/ 261).
وقال الإمام ابن عطية: ” واختلف الناس في معنى قوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ وفي حكمه فقال من قال: إن الكتاب المكنون هو الذي في السماء.
الْمُطَهَّرُونَ هنا الملائكة ، قال قتادة: فأما عندكم فيمسه المشرك المنجس والمنافق .
قال الطبري: الْمُطَهَّرُونَ: الملائكة والأنبياء ومن لا ذنب له ، وليس في الآية على هذا القول حكم مس المصحف لسائر بني آدم .
ومن قال بأنها مصاحف المسلمين، قال إن قوله: لا يَمَسُّهُ إخبار مضمنه النهي، وضمة السين على هذا ضمة إعراب .
وقال بعض هذه الفرقة: بل الكلام نهي، وضمة السين ضمة بناء، قال جميعهم: فلا يمس المصحف من جميع بني آدم إلا الطاهر من الكفر والجنابة والحدث الأصغر .
قال مالك: لا يحمله غير طاهر بعلاقته ولا على وسادة. وفي كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: ولا يمس المصحف إلا الطاهر .
وقد رخص أبو حنيفة وقوم بأن يمسه الجنب والحائض على حائل ، غلاف ونحوه .
ورخص بعض العلماء في مسه بالحدث الأصغر، وفي قراءته عن ظهر قلب، منهم ابن عباس وعامر الشعبي، ولا سيما للمعلم والصبيان .
وقد رخص بعضهم للجنب في قراءته .
وهذا الترخيص كله مبني على القول الذي ذكرناه ، من أن المطهرين هم الملائكة ، أو على مراعاة لفظ اللمس ، فقد قال سليمان: لا أمس المصحف ، ولكن أقرأ القرآن” انتهى من “تفسير ابن عطية “(5/ 252).
ثانيًا:
أما الاستدلال بهذه الآية على منع المحدث من مس المصحف، فعلى وجوه:
1- فأما على القول الثاني فظاهر، لأن الآية معناها على هذا القول: لا يمس القرآن إلا طاهر من الحدثين الأصغر والأكبر .
2- وأما على القول الأول، فلبعض العلماء في تقريره وجه لطيف .
يقول ابن القيم في تقرير دلالة الآية الكريمة على ذلك ، وننقله بطوله لحسنه وفائدته:
” فصل :
ثُمَّ قال تعالى: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ [الواقعة: 78]، اختلف المفسِّرون في هذا ، فقيل: هو اللوح المحفوظ .
والصحيح أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة ، وهو المذكور في قوله تعالى: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) [عبس: 13 – 16].
قال مالك: “أحسن ما سمعت في هذه الآية -يعني قوله: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ – أنها مثل التي في “عَبَسَ”: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ .
ويدلُّ على أنَّه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، فهذا يدلُّ على أنَّه بأيديهم يَمَسُّونَهُ.
وهذا هو الصحيح في معنى الآية.
ومن المفسِّرين من قال: إنَ المراد به أنَّ المصحف لا يَمَسُّه إلا طاهرٌ .
والأوَّلُ أرْجَحُ لوجوهٍ :
أحدها: أنَّ الآية سيقت تنزيها للقرآن أنْ تنزِلَ به الشياطين، وأنَّ مَحَلهُ لا يصل إليه فيمسَّهُ إلا المطهَرون، فيستحيل على أَخَابِثِ خلق الله – وأنجسهم أن يصلوا إليه أو يَمَسُّوه، كما قال تعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [الشعراء: 210 – 211] .
فنفَى الفعلَ وتأَتِّيه منهم، وقدرتَهم عليه، فما فعلوا ذلك ولا يليق بهم، ولا يقدرون عليه. فإنَّ الفعلَ قد ينتفي عمَّنْ يَحْسُنُ منه، وقد يليق بمن لا يقدر عليه، فنَفَى عنهم الأمور الثلاثة.
وكذلك قوله -تعالى- في سورة “عبس”: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) [عبس: 13 – 16]، فوصَفَ مَحَلَّهُ بهذه الصفات بيانًا أن الشيطان لا يمكنه أن يتنزَّلَ به.
وتقرير هذا المعنى أهمُّ وأجلُّ وأنفعُ من بيان كون المصحف لا يمسُّه إلا طاهرٌ.
الوجه الثاني: أنَّ السورةَ مكَيَّةٌ، والاعتناء في السُّوَرِ المكَيَّةِ إنَّما هو بأصول الدِّين، من تقرير التوحيد، والمَعَاد، والنُّبوَّة. وأمَّا تقرير الأحكام والشرائع فمظِنَّتُهُ السُّوَرُ المدنيَّةُ.
الثالث: أنَّ القرآنَ لم يكن في مُصْحَف عند نزول هذه الآية، ولا في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وإنَّما جُمِعَ في المصحف في خلافة أبي بكر.
وهذا وإنْ جازَ أن يكون باعتبار ما يأتي؛ فالظاهر أنَّه إخبارٌ بالواقع حال الإخبار .
يوضِّحُهُ:
الوجه الرابع: وهو قوله: فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)، و”المَكْنُون”: المَصُون المَسْتُور عن الأعين الذي لا تناله إيدي البَشَر، كما قال تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) [الصافات: 49]، وهكذا قال السلف.
قال الكلبي: “مَكْنُونٌ من الشياطين”.
وقال مقاتل: “مَسْتُور” .
وقال مجاهد: “لا يصيبه ترابٌ ولا غُبَارٌ” .
وقال أبو إسحاق : “مَصُونٌ في السماء” .
يوضِّحُهُ:
الوجه الخامس: أنَّ وَصْفَهُ بكونه “مكنونًا” : نظير وَصْفه بكونه “محفوظًا”، فقوله عزَّ وجلَّ: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) كقوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) [البروج: 21 – 22] .
يوضِّحُهُ:
الوجه السادس: أنَّ هذا أبلغُ في الردِّ على المكذِّبين، وأبلغُ في تعظيم القرآن من كون المصحف لا يمسُّهُ مُحْدِثٌ.
الوجه السابع: قوله: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) بالرَّفْع ، فهذا خبرٌ لفظًا ومعنىً، ولو كان نهيًا لكان مفتوحًا.
ومن حَمَلَ الآية على النَّهْي ، احتاج إلى صرف الخبر عن ظاهره إلى معنى النَّهْي، والأصل في الخبر والئهْي حَمْلُ كُلٍّ منهما على حقيقته، وليس ههنا مُوجِبٌ يُوجِبُ صَرْف الكلام عن الخبر إلى النَّهْي.
الوجه الثامن: أنَّه قال: إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) ولم يقل: إلا المتطهِّرون. ولو أراد به مَنْعَ المُحْدِثِ من مَسِّهِ لَقَال: إلا المتطهِّرون، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) [البقرة: 222]، وفي الحديث: “اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابين، واجعلني من المُتَطَهِّرين” ؛ فـ “المُتَطَهِّر” فاعِلُ التطهير، و”المُطَهَّر” الذي طهَّرَهُ غيرُهُ، فالمتوضِّئُ ، كمتطهِّرٌ، والملائكةُ مطهَّرون.
الوجه التاسع: أنَّه لو أُريد به المصحف الذي بأيدينا لم يكن في الإخبار عن كونه مَكْنُونًا كبيرُ فائدةٍ، إذ مجرَّدُ كَونِ الكلام مكنونًا في كتابٍ ، لا يستلزم ثبوته .
فكيف يُمدَح القرآن بكونه مكنونًا في كتابٍ ، وهذا أمرٌ مشتركٌ ؟!
والآيةُ إنَّما سِيقت لبيان مدحه وتشريفه ، وما اختصَّ به من الخصائص التي تدلُّ على أنَّه منزَلٌ من عند الله ، وأنَّه محفوظٌ مَصُونٌ ، لا يصل إليه شيطانٌ بوجهٍ ما، ولا يَمسُّ مَحَلَّهُ إلا المطهَّرون ، وهم السَّفَرَةُ الكِرَامُ البَرَرَةُ.
الوجه العاشر: ما رواه سعيد بن منصور في “سننه”: حدثنا أبو الأحْوَص، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس بن مالك في قوله تعالى: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) قال: “المطهَّرون: الملائكة” .
وهذا -عند طائفةٍ من أهل الحديث- في حكم المرفوع.
قال الحاكم : ” تفسير الصحابة -عندنا- في حكم المرفوع” ، ومن لم يجعله مرفوعًا فلا ريب أنَّه عنده أصحُّ من تفسير مَنْ بَعد الصحابة ، والصحابةُ أعلم الأمَّة بتفسير القرآن، ويجب الرجوع إلى تفسيرهم.
وقال حرب في “مسائله”: “سمعت إسحاق في قوله: لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ قال: النُّسْخَةُ التي في السماء لا يمسُّها إلا المطهَّرون. قال: الملائكة” .
وسمعتُ شيخ الإسلام يقرِّرُ الاستدلالَ بالآية على أنَّ المصحف لا يمسُّه المُحْدِثُ بوجهٍ آخر ، فقال:
هذا من باب التنبيه والإشارة، وإذا كانت الصحف التي في السماء لا يمسُّها إلا المطهَّرون، فكذلك الصحف التي بأيدينا من القرآن لا ينبغي أن يمسَّها إلا طاهِرٌ .
والحديث مشتَقٌّ من هذه الآية، وهو قوله: ( لا تَمسَّ القرآنَ إلا وأنتَ طاهِرٌ ) .
رواه أهل “السنن ” من حديث: الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ في الكتاب الذي كتبه النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إلى أهل اليمن في السُّنَنِ، والفرائضِ، والدَّيَاتِ: “أن لا يمسَّ القرآن إلا طاهر” .
قال أحمد: “أرجو أن يكون صحيحًا” .
وقال أيضًا: “لا أَشُكُّ أنَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وسلم – كَتبَهُ”.
وقال أبو عمر : “هو كتاب مشهور عند أهل السِّيَر، معروفٌ عند أهل العلم ، معرفةً يُسْتَغنى بشهرتها عن الإسناد؛ لأنَّه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقِّي الناس له بالقبول والمعرفة”.
ثُمَّ قال: “وهو كتابٌ معروفٌ عند العلماء، وما فيه فَمُتَّفَقٌ عليه ، إلا قليلاً” .
وقد رواه ابن حِبَّان في “صحيحه” ، ومالك في “موطئه” .
وفي المسألة آثارٌ أُخَرُ مذكورةٌ في غير هذا الموضع” .
انتهى من”التبيان في أيمان القرآن” (1/ 330)، وما بعدها .
وانظر في حكم مس المحدث للمصحف: (10672)، (110808)، (100228)، (197285)، (106961)، (118244).
والله أعلم
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة