عرضت علي شبهة أزعجتني، وحاولت تأويلها، وهي كالتالي : يوجد في صحيح الامام البخاري-رحمه الله- حديث ينص على الآتي : روى البخاري (1917)، ومسلم (1091) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : "أُنْزِلَتْ ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ)، وَلَمْ يَنْزِلْ (مِنَ الْفَجْرِ)، فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ : (مِنَ الْفَجْرِ) فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ " . وأشكل علي أن التبيان والتفصيل جاء بعد مدة من الزمن، فأحببت أن أعلم الحكمة وراء تأخير نزول (من الفجر) ، تأويلي للمسألة أن الله عز وجل أنزل على نبيه علية الصلاة والسلام من سورة البقرة الى الآية 187، ثم لم يفهم مجموعة قليلة من الصحابة معنى الخيطين، ولم تنزل تبيانية، إنما نزلت تكميلية، والدليل على ذلك عدي بن حاتم رضي الله عنه لم يفهم المعنى مع وجود كلمة من الفجر، فهل هذا رأي سديد؟ فالإشكال عندي أن الله عز وجل كما نعلم هو العليم، فلماذا يقول الصحابي فعلموا ما يقصد؛ يعني الله سبحانه لم يصل مقصده في أول مرة أنزل فيها الآية ، وهل كانت (من الفجر) بيانية أم تكملة للآية ؟
تأخر نزول قوله تعالى: ( من الفجر ) من قوله : (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض .. ) الآية .
السؤال: 320679
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولاً:
قال الله تعالى : أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة/187.
ومعنى ذلك أن الله تعالى أباح للصائم الأكل والشرب ليلاً حتى يتبين له (أي يتيقن) طلوع الفجر .
والمراد من الخيط الأبيض النهار ، والخيط الأسود الليل .
قال الحافظ : وَمَعْنَى الآيَةِ حَتَّى يَظْهَرَ بَيَاضُ النَّهَارِ مِنْ سَوَادِ اللَّيْلِ , وَهَذَا الْبَيَانُ يَحْصُلُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ .
وَقَوْلُهُ : ( مِنَ الْفَجْرِ ) بَيَانٌ لِلْخَيْطِ الأَبْيَضِ , وَاكْتَفَى بِهِ عَنْ بَيَانِ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ لأَنَّ بَيَانَ أَحَدِهِمَا بَيَانٌ لِلآخَرِ اهـ .
وقد فهم بعض الصحابة رضي الله عنهم الآية على خلاف معناها ، ففهموا أن المراد منها الخيط الحقيقي، فكان أحدهم يجعل تحت وسادته أو يربط في رجله خيطين أحدهما أبيض والآخر أسود ويظل يأكل حتى يتبين له أحدهما من الآخر ، وسبب هذا الخطأ في فهم معنى الآية أن الله تعالى أنزل الآية أولاً بدون قوله : ( مِنَ الْفَجْرِ ) ، ففهمها بعض الصحابة على المعنى المتبادر إلى الذهن من كلمة "الخيط" ثم أنزل الله تعالى بعد مدة (قال بعض العلماء إنها سنة) أنزل قوله : ( مِنَ الْفَجْرِ ) فعلموا أن المراد بالخيط الأبيض ضوء الفجر (النهار) وبالخيط الأسود الليل .
روى البخاري (1917) ومسلم (1091) عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ : " أُنْزِلَتْ ( وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ) وَلَمْ يَنْزِلْ (مِنَ الْفَجْرِ) فَكَانَ رِجَالٌ إِذَا أَرَادُوا الصَّوْمَ رَبَطَ أَحَدُهُمْ فِي رِجْلِهِ الْخَيْطَ الأَبْيَضَ وَالْخَيْطَ الأَسْوَدَ ، وَلَمْ يَزَلْ يَأْكُلُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُؤْيَتُهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدُ : (مِنَ الْفَجْرِ) فَعَلِمُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَعْنِي اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ .
فهؤلاء الصحابة حَمَلُوا الْخَيْطَ عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَلَمَّا نَزَلَ (مِنَ الْفَجْرِ) عَلِمُوا الْمُرَادَ " .
وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل في جواب السؤال رقم : (50120).
ثانيا:
وقوله: إن وسادك لعريض ؛ حمله بعض الناس على الذم له على ذلك الفهم، وكأنه فهم منه: أن النبي – صلى الله عليه وسلم -: نسبه إلى الجهل والجفاء وعدم الفقه. وربما عضدوا هذا بما روي: أنه – صلى الله عليه وسلم – ، قال له: (إنك لعريض القفا)، وليس الأمر كذلك؛ فإنه حمل اللفظ على حقيقته اللسانية؛ إذ هي الأصل؛ إذ لم يتبين له دليل التجوز. ومن تمسك بهذا الطريق، لم يستحق ذما، ولا ينسب إلى جهل.
وإنما عنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم: أن وسادك إن غَطّى الخيطين اللذين أراد الله، اللذين هما الليل والنهار، فهو إذا وساد عريض واسع؛ إذ قد شملهما، وعلاهما، ألا تراه قد قال على إثر ذلك: (إنما هو سواد الليل وبياض النهار)؛ فكأنه قال: فكيف يدخلان تحت وساد؟ !
وإلى هذا يرجع قوله: إنك لعريض القفا ؛ لأن هذا الوساد الذي قد غطى الليل والنهار بعرضه، لا يرقد عليه، ولا يتوسده إلا قفا عريض، حتى يناسب عرضُه عرضَه.
وهذا عندي أشبه ما قيل فيه ، وأليق. ويدل أيضا عليه: ما زاده البخاري قال: (إن وسادك إذا لعريض إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك) ، وقد أكثر الناس فيه" . "المفهم" (3/149).
ثالثا:
ليس هناك إشكال في أن يخطئ بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في فهم مراد الله من آية، كما أن بعضهم قد يخطئ في فقه حكم من أحكام الله، وقد تغيب عنه الآية بالكلية ، ويغيب عنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية ، فإن الواحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليس معصوما من الخطأ ، أو عدم العلم بحكم الله في أمر معين ؛ ليس هذا غريبا، ولا مشكلا ، وقد وقعت له نظائر كثيرة معروفة .
ومن هذا الباب ما وقع لعدي بن حاتم رضي الله عنه في فهم الآية الكريمة، فقد حمل لفظ الآية على ظاهره، وظن أن المراد به : حقيقة ( الخيط ) ، والتمييز بينهما ، فصنع ما صنع .
وقد بينا وجه ذلك كله في الجواب المحال عليه .
رابعا:
وأما أن نزول قوله تعالى : ( من الفجر ) قد تأخر عن نزول أول الآية، مع أنه مبين لتمام معناها، فقد ذكر غير واحد من أهل العلم أن ذلك البيان قد نزل قبل أن يدركهم رمضان ، وأن ما وقع قبل ذلك إنما وقع في صوم النفل، وفيه وقع قصة وضع عدي بن حاتم للعقالين، ولم يأت وقت الفرض حتى نزل تمام البيان بقوله تعالى : ( من الفجر ) .
قال الشيخ حسن العطار رحمه الله:
" وَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة: 187] وَلَمْ يَنْزِلْ مِنَ الْفَجْرِ فَكَانَ أَحَدُنَا إذَا أَرَادَ الصَّوْمَ رَفَعَ عِقَالَيْنِ أَبْيَضَ وَأَسْوَدَ وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ حَتَّى يَتَبَيَّنَا فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ التَّفْتَازَانِيُّ بِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَرْضِ فِي الصَّوْمِ، وَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إنَّمَا هُوَ صَوْمُ الْفَرْضِ اهـ.
أَوْ أَنَّهُ اكْتَفَى أَوَّلًا بِإِشْهَارِ الْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ صَرَّحَ بِالْبَيَانِ لَمَّا الْتَبَسَ عَلَى بَعْضِهِمْ لِقِلَّةِ فَطِنْتِهِ فَإِنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَصَفَهُ بِعَرْضِ الْقَفَا حِين أُخْبِرَ بِذَلِكَ، وَعَرْضُ الْقَفَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْفِطْنَةِ" . "حاشية العطار على شرح جمع الجوامع" (2/102). وينظر: "شرح التلويح" (2/34).
ومعنى ذلك: أن البيان قد تأخر عن "وقت النزول"، ولم يتأخر عن وقت الحاجة، وهذا لا إشكال فيه.
قال ابن عطية : " وروي أنه كان بين طرفي المدة عام ، قال القاضي أبو محمد: من رمضان إلى رمضان، تأخر البيان إلى وقت الحاجة "، انتهى ، "المحرر الوجيز" (1/ 258).
وقال "ابن عجيبة" في "البحر المديد" (1/ 216) : " ولم ينزل قوله تعالى: ( مِنَ الْفَجْرِ ) إلا بعد مدة، فحمله بعض الصحابة على ظاهره، فعمد إلى خيطٍ أبيض وخيط أسود فجعلهما تحت وِسادته، فجعل يأكل وينظر إليهما، فلم يتبيَّنا، ومنهم عَديُّ بنُ حاتم، قال: فغدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحِك، وقال: إِنك لَعَرِيضُ القَفا، إِنَّمَا ذلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وسَوَادُ اللَّيْلِ ، والحديث ثابت في البخاري وغيرِه.
واعترضه الزمخشري بأن فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز، لما فيه من التكليف بما لا يطاق.
وأُجيب بأنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإنما فيه تأخير البيان لوقت الحاجة، وهو جائز.
وبيان ذلك: أنه لمّا نزل قوله تعالى: ( حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ ) فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون مُرادَ الله منهما، واستمر عملهم على ذلك، فكانت الآية مُبينة في حقهم لا مُجْمَلة.
وأما عَدِيّ بن حاتم … فحمل الآية على ظاهرها ، ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لَعِرَيضُ القَفا ؛ فنزلت الآية تُبين لعدي مُرادَ الله ، عند الحاجة إلى البيان.
مع أن السيوطي ذكر في التوشيح خلاف هذا ، ونصه: قال بعضهم: كأنَّ عديّاً لم يسمع هذه اللفظة من الآية لأنها نزلت قبل إسلامه بمدة، وذلك أن إسلامه كان في السنة التاسعة أو العاشرة، بعد نزول الآية بمدة، قال: علَّمنِي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام، فقال: صلّ كذا، وصم كذا، فإن غابت الشمس فَكُلْ حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فأخذ الخيطين … .. الحديث. فقال له- عليه الصلاة والسلام: ألم أقل لك من الفجر؟ ، فتبين أن قوله في الحديث: فأنزل الله مِنَ الفجر من تصرُّف الرواة. ا.هـ. مختصراً، فهذا صريح في أن الآية نزلت بتمامها مبينة فلم يكن فيها تأخير، والله تعالى أعلم "، انتهى .
وقال "ابن عاشور" : " … فَيَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ مَحْمَلُ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ قَدْ عَمِلَهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الصَّوْمِ الْمَفْرُوضِ قَبْلَ فَرْضِ رَمَضَانَ ، أَيْ صَوْمِ عَاشُورَاءَ ، أَوْ صَوْمِ النَّذْرِ ، وَفِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ فَرْضِ رَمَضَانَ ، وَفِيهَا : ( مِنَ الْفَجْرِ ) ؛ عَلِمُوا أَنَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ خَطَأٌ، ثُمَّ حَدَثَ مِثْلُ ذَلِكَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ.
…. وأيّا مَا كَانَ ؛ فَلَيْسَ فِي هَذَا شَيْءٌ مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ، لِأَنَّ مَعْنَى الْخَيْطِ فِي الْآيَةِ ظَاهِرٌ لِلْعَرَبِ، فَالتَّعْبِيرُ بِهِ مِنْ قَبِيلِ الظَّاهِرِ، لَا مِنْ قَبِيلِ الْمُجْمَلِ، وَعَدَمُ فَهْمِ بَعْضِهِمُ الْمُرَادَ مِنْهُ : لَا يَقْدَحُ فِي ظُهُورِ الظَّاهِرِ، فَالَّذِينَ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَعْنَى الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، فَهِمُوا أَشْهَرَ مَعَانِي الْخَيْطِ ، وَظَنُّوا أَنَّ قَوْلَهُ: ( مِنَ الْفَجْرِ ) مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ يَتَبَيَّنَ ، عَلَى أَنْ تَكُونَ (مِنْ) تَعْلِيلِيَّةً، أَيْ يَكُونُ تَبَيُّنُهُ بِسَبَبِ ضَوْءِ الْفَجْرِ، فَصَنَعُوا مَا صَنَعُوا "، انتهى من "التحرير والتنوير" (2/ 185)، بتصرف يسير .
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب
موضوعات ذات صلة