سألني أحد أصدقائي عن معنى قول الله سبحانه وتعالى:(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فقلت له: المعيشة الضنك قد تكون بالدنيا، وقد تكون بالبرزخ، وقد تكون في الاثنين معًا، فهل كلامي هذا صحيح؟ وهل قال به بعض العلماء والمفسرين؟
المعيشة الضنك للمعرض عن الوحي، متى تكون؟
السؤال: 487719
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا:
قال الله تعالى:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى طه/124.
والمعيشة الضنك هي التي فيها ضيق وشدة وشقاء.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" يقول تعالى ذكره: ومن أدبر معرضا عن ذكري الذي أذكِّره به، فتولى عنه ولم يقبله، ولم يستجب له، ولم يتعظ به، فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه، ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول: فإن له معيشة ضيقة. والضنك من المنازل والأماكن والمعايش: الشديد، يقال: هذا منزل ضنك: إذا كان ضيقا " انتهى من "تفسير الطبري" (16 / 192).
وقد اختلف أهل التفسير في تحديد وقت هذه المعيشة الضنك.
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" في مكان المعيشة ثلاثة أقوال: أحدها: القبر. والثاني: الدنيا. والثالث: جهنم " انتهى من "زاد المسير" (5 / 332).
ومن قال إن المعيشة الضنك، هي ما يكون من ضيق القبر وشدته، استند على جملة من الآثار.
قال الواحدي رحمه الله تعالى:
" وأكثر ما جاء في التفسير المعيشة الضَنْك: أنه عذاب القبر. عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود " انتهى من "البسيط" (14 / 551).
ومن ذلك ما رواه ابن حبان "الإحسان" (7 / 388)، قال: أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فِي قَوْلِهِ جَلَّ وَعَلَا: ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ) قال: عذاب القبر.
وجوّد إسناده ابن كثير في "التفسير" (5 / 324)، وحسّنه محقق الإحسان الشيخ شعيب، والشيخ الألباني في "التعليقات الحسان" (5 / 101).
لكن اختلف في رفع هذا الحديث ووقفه.
جاء في "علل الدارقطني" (9 / 295):
" وسُئل عن حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة الحديث الطويل، في الميت أنه يسمع خفق نعالهم حيث يولون، بطوله.
فقال: يرويه محمد بن عمرو بن علقمة واختلف عنه؛
فرواه نعيم، وحماد، وعبد الوهاب: عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ووقفه خالد بن عبد الله الواسطي، وعبدة بن سليمان، ويزيد بن هارون، وسعيد بن عامر، عن محمد بن عمرو " انتهى.
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا الربيع بن سليمان، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا ابن لهيعة، حدثنا دراج أبو السمح، عن ابن حجيرة -اسمه عبد الرحمن -عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤمن في قبره في روضة خضراء، ويرحب له في قبره سبعون ذراعا، وينور له قبره كالقمر ليلة البدر، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية: فإن له معيشة ضنكا ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده، إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنينا، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية، لكل حية سبعة رؤوس، ينفخون في جسمه، ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون ).
رفعه منكر جدا". انتهى، من "تفسير ابن كثير" (5/323).
وذكره أيضا من رواية أبي سعيد، مرفوعا، وفيه: ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال: (ضمة القبر). قال ابن كثير: "الموقوف أصح " انتهى. "تفسير ابن كثير" (5 / 323).
وينظر للفائدة: "تهذيب سنن أبي داود" لابن القيم، ط عطاءات العلم (3/331-332) حاشية المحققين.
والحاصل: أن هذا التفسير، وإن لم يصح من قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد ورد موقوفا عن غير واحد من الصحابة رضوان الله عليهم.
فمن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (19 / 437)، وسعيد بن منصور في "السنن – التفسير" (6 / 283)، وغيرهما: عن أبي حازمٍ، عن النعمانِ بنِ أبي عَيَّاشٍ الزُّرَقيِّ، عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ: في قولِه عز وجل: ( مَعِيشَةً ضَنْكًا )؛ قال: هو عذابُ القبرِ.
وحسّنه محققو المصنف، وصحح إسناده محققو السنن.
وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (7 / 235)، وعبد الرزاق في "المصنف" (3 / 567): عن أَبي سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، يخبر عن مصير الكافر في قبره، قَالَ: … وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنَ النَّارِ فَيَرَى مَسَاكِنَهُ فِيهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَيَزْدَادُ حَسْرَةً وَثُبُورًا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَلْتَقِيَ أَضْلَاعُهُ "، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عز وجل: ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) .
وحسّنه محققو المصنف.
ثانيا:
وأما تفسير: ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) بعذاب النار، فلأن عيش الآخرة هو العيش الحقيقي الكامل، والكافر في النار في عيش ضنك ومكان ضيق.
قال الله تعالى:
وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا ، إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ، وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا الفرقان/11 – 13.
ولأن طعامهم فيها هو نفسه قطعة من العذاب.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك، والحال التي جعلهم فيها، فقال بعضهم: جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم.
ذكر من قال ذلك: [ فذكر روايات عن الحسن وقتادة، وقال ]:
وحدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا )… قال: هؤلاء أهل الكفر، قال: و( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) في النار؛ شوك من نار وزقوم وغسلين، والضريع: شوك من نار، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة، ما المعيشة والحياة إلا في الآخرة، وقرأ قول الله عزّ وجلّ: ( يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) قال: لمعيشتي، قال: والغسلين والزقوم: شيء لا يعرفه أهل الدنيا " انتهى من "تفسير الطبري" (16 / 193 – 194).
ثالثا:
روي أيضا ، عن جمع من أهل التفسير: أنهم حملوا جملة: ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) على عيش الدنيا.
وأن الكافر يضيق عليه رزقه فلا يكون إلا من حرام، وتنزع القناعة من قلبه ، فلا يزال على خوف ووجل.
قال البغوي رحمه الله تعالى:
" وقال عكرمة: هو الحرام. وقال الضحاك: هو الكسب الخبيث.
وعن ابن عباس قال: الشقاء. وروي عنه أنه قال: كل مال أعطي العبد، قل أم كثر، فلم يتق فيه: فلا خير فيه، وهو الضنك في المعيشة، وإن أقواما أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين، فكانت معيشتهم ضنكا، وذلك أنهم يرون أن الله ليس بمخلف عليهم، فاشتدت عليهم معايشهم من سوء ظنهم بالله.
قال سعيد بن جبير: يسلبه القناعة حتى لا يشبع " انتهى من "تفسير البغوي" (5 / 301).
والظاهر أن الكسب الحرام وعدم القناعة: هما نوع من الضنك، والضنك في الدنيا أعمّ من ذلك، فالمعرض عن الهدى، وإن كثر ماله وولده: إلا أن قلبه في وحشة وشقاء، فلا يتمتع بمتع الدنيا إلا ظاهرا، فهو في همّ في جمعها وحفظها، وفي خوف من تبدل الحال وتقاصر العمر.
قال الله تعالى: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ التوبة/55.
وهو في وحشة لبعده عن خالقه، وإن سترتها الشهوات والملذات.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) أي: في الدنيا، فلا طمأنينة له، ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك، فلا يزال في ريبة يتردد. فهذا من ضنك المعيشة.
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال: الشقاء " انتهى من "تفسير ابن كثير" (5/322).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأصناف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، وإن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر، فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر، فإنه يفيق صاحبه ويصحو، وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا كان صاحبه في عسكر الأموات " انتهى من "الداء والدواء" (ص 279).
والصواب من كل هذا؛ أن هذه التفاسير لا تعارض بينها، بل هي من باب اختلاف التنوع، فالمعرض عن الهدى يكون في شقاء وضيق حياة في الدنيا، وفي البرزخ، ويوم القيامة، كما ذهب إلى هذا عدد من أهل العلم كابن القيم في "الداء والدواء" (ص 278 وما بعدها) وفي غيره من الكتب، وكذا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان، حيث قال رحمه الله تعالى:
" واختلف العلماء في المراد بهذا العيش الضيق على أقوال متقاربة، لا يكذب بعضها بعضا.
وقد قدمنا مرارا: أن الأولى في مثل ذلك شمول الآية لجميع الأقوال المذكورة " انتهى من "أضواء البيان" (4/681).
ومما يشير إلى هذا العموم قوله تعالى:
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ الجاثية /21.
والخلاصة:
جملة: ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) معناها مطلق غير مقيد بزمن، فالصواب أن تفهم على إطلاقها، فالمعرض عن القرآن وعن العمل به، له من ضيق العيش والشقاء بحسب إعراضه، وذلك في جميع الديار، في دار الدنيا وفي البرزخ ويوم القيامة.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" وبعض المفسرين، يرى أن المعيشة الضنك، عامة في دار الدنيا، بما يصيب المعرض عن ذكر ربه، من الهموم والغموم والآلام، التي هي عذاب معجل، وفي دار البرزخ، وفي الدار الآخرة، لإطلاق المعيشة الضنك، وعدم تقييدها " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 516).
والله أعلم.
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب