أسأل عن معنى قول للإمام أحمد: أمروها كما جاءت في غير الصفات بل في أحاديث الوعيد، فقد سئل الإمام أحمد عن أحاديث الوعيد، كحديث: (ثنتان في أمتي هما بهم كفر)، وقوله: (والله لا يؤمن ) ، وقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فقال رحمه الله تعالى: تمر كما جاءت.
وسؤالي هنا هذا القول ( أمروها كما جاءت) يعني السلف بها في الصفات أثبتوها، فلماذا قال الإمام أحمد: أمروها، أفلا يؤول هذه الأحاديث؛ لأن ظاهرها تكفيرهم؟
أولا:
عبارة (أمِرُّوها كما جاءت) كما وردت عن أئمة أهل السنة في التعامل مع أحاديث صفات الله تعالى، فقد وردت كذلك في أحاديث الوعد والوعيد، وأحاديث الفضائل، وغيرها، وكل هذا ليس قاصرًا على الإمام أحمد بن حنبل أو غيره، بل هو من منهج أهل السنة في رد البدع المختلفة.
فقد استعمل أهل البدع هذه الأحاديث في تقوية بدعهم الباطلة، فالجهمية ثم المعتزلة في أحاديث الصفات وغيرها، والمعتزلة والمرجئة والخوارج والرافضة في أحاديث الوعد والوعيد وأحاديث الفضائل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “نصوص أحمد والأئمة قبله بيِّنةٌ في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرُّون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك.
وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تُمَرُّ كما جاءت، وفي أحاديث الوعيد، مثل قوله: (من غشنا فليس منا) وأحاديث الفضائل، ومقصوده بذلك: أن الحديث لا يحرَّف كلمُه عن مواضعه، كما يفعله من يحرِّفه ويسمي تحريفه: تأويلًا، بالعرف المتأخر”، انتهى من “مجموع الفتاوي” (13/295).
وقال أيضًا رحمه الله في كلامه عن حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن):
“فالذي في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم فيها حين ينتهبها وهو مؤمن)، والزيادة التي رواها أبو داود والترمذي صحيحة وهي مفسرة للرواية المشهورة.
فقول السائل: هل حمل الحديث على ظاهره أحد من الأئمة؟ لفظ مشترك؛ فإن عنى بذلك أن ظاهره أن الزاني يصير كافرًا وأنه يسلب الإيمان بالكلية؛ فلم يحمل الحديث على هذا أحد من الأئمة، ولا هو أيضًا ظاهر الحديث، لأن قوله (خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة) دليل على أن الإيمان لا يفارقه بالكلية، فإن الظلة تظلل صاحبها وهي متعلقة ومرتبطة به نوع ارتباط.
وأما إن عنى بظاهره ما هو المفهوم منه كما سنفسره إن شاء الله فنعم، فإن عامة علماء السلف يقرون هذه الأحاديث ويُمرُّونها كما جاءت، ويكرهون أن تتأول تأويلات تخرجها عن مقصود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُقل كراهة تأويل أحاديث الوعيد عن سفيان، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم، وجماعة كثيرة من العلماء، ونصَّ أحمد على أن مثل هذا الحديث لا يُتأول تأويلًا يخرجه عن ظاهره المقصود به”، انتهى من “مجموع الفتاوي” (7/673).
ثانيًا:
معنى الإمرار في كل ذلك واحد، وهو إبقاء الكلام على مراد قائله، فإن القرآن منقول معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم بيِّنٌ معلوم المعنى بلا لبس لو أنه أخذ بحقه، فالمراد أمروها على ذلك، لا كتحريف الغالين، أو انتحال المبطلين، أو تأويل الجاهلين.
فمراد الأئمة بالإمرار في كل ذلك:
1- إبقاء دلالة هذه الأحاديث على ما دلت عليه ألفاظها من المعاني، وهي المعاني المنقولة عن الصحابة والتابعين.
2- الكف عن تفسيرات وتأويلات أهل البدع والأهواء والتحذير من هذا المسلك، الذي سلكوه في تحريف دلالة هذه الأحاديث كلها، فخرجوا بذلك عن اتباع الصحابة وتابعيهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى إمرار أحاديث الصفات مثالًا:
“”قولهم: أمِرُّوها كما جاءت: يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظًا دالة على معان، فلو كانت دلالتها منتفية، لكان الواجب أن يقال: أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمِرُّوا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يُوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أُمِرّت كما جاءت”، انتهى من “الفتوى الحموية”، ضمن “مجموع الفتاوي” (5/41).
وقال رحمه الله وهو يجمع مع أحاديث الصفات: أحاديثَ الوعيد التي يستدل بها الخوارج:
“وهذا أحمد بن حنبل إمام أهل السنة الصابر في المحنة الذي قد صار للمسلمين معيارًا يفرقون به بين أهل السنة والبدعة … ولم يقل أحمد إن هذه الآيات والأحاديث لا يفهم معناها إلا الله …
وكذلك كان أحمد يفسر المتشابه من الآيات والأحاديث التي يحتج بها الزائغون من الخوارج وغيرهم، كقوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الشارب الخمر حين يشرب وهو مؤمن) وأمثال ذلك، ويُبطل قول المرجئة والجهمية وقول الخوارج والمعتزلة، وكلُّ هذه الطوائف تحتج بنصوص المتشابه على قولها … وكان الإمام أحمد ينكر طريقة أهل البدع الذين يفسرون القرآن برأيهم وتأويلهم، من غير استدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة والتابعين الذين بلَّغهم الصحابةُ معاني القرآن كما بلغوهم ألفاظه، ونقلوا هذا كما نقلوا هذا، لكن أهل البدع يتأولون النصوص بتأويلات تخالف مراد الله ورسوله ويدَّعون أن هذا هو التأويل الذي يعلمه الراسخون وهم مبطلون في ذلك”، انتهى مختصرًا، من “مجموع الفتاوي” (17/414) وما بعدها.
ثالثًا:
ينبغي الحذر من إطلاق القول بأن أحاديث الوعيد (ظاهرها) التكفير، فإن الصحابة والسلف والأئمة مجمعون على فساد قول الخوارج المستدلين بأحاديث الوعيد على تكفير مرتكب المعصية، ولا يجوز القول بأن ظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي هذا الفساد، وأنه لم يبين هذا الفساد الظاهر، مع كثرة أحاديث الوعيد وشهرتها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “لفظة (الظاهر) قد صارت مشتركة، فإن الظاهر في الفطر السليمة، واللسان العربي، والدين القيم، ولسان السلف؛ غير الظاهر في عرف كثير من المتأخرين”، انتهى من “مجموع الفتاوي” (33/175).
ويقول أيضًا: “ظاهر الكلام هو: ما يسبق إلى العقل السليم منه، لمن يَفهم بتلك اللغة، ثم قد يكون ظهوره بمجرد الوضع وقد يكون بسياق الكلام” “مجموع الفتاوي” (6/356).
وعلى ذلك؛ فلا بد من معرفة بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ومراده، فإنه لم يدَعْ شيئًا إلا بيّنه، لكن بيان النبي صلى الله عليه وسلم: تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالفعل، وغير ذلك.
يقول ابن تيمية: “كل كلام أطلق في الكتاب والسنة فلا بد أن يقترن به ما يبين المراد منه” “مجموع الفتاوي” (7/673).
ويقول: “فالبيان قد يحصل بجملة تامة وبأفعال من الرسول وبغير ذلك” “مجموع الفتاوي” (7/104)، وينظر في أنواع وأقسام بيان الرسول صلى الله عليه وسلم: “أعلام الموقعين” لابن القيم (3/230).
وفيما يتعلق بأحاديث الوعيد خاصة يقول ابن تيمية:
“واسم الإيمان والإسلام والنفاق والكفر: هي أعظم من هذا كله، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بين المراد بهذه الألفاظ، بيانًا لا يُحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق، وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك؛ فلهذا يجب الرجوع في مسميات هذه الأسماء إلى بيان الله ورسوله، فإنه شاف كاف.
بل معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصة والعامة، بل كل من تأمل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان: علم بالاضطرار أنه مخالف للرسول، ويعلم بالاضطرار أن طاعة الله ورسوله من تمام الإيمان، وأنه لم يكن يجعل كلَّ مَن أذنب ذنبا كافرًا …
وكذلك كل مسلم يعلم أن شارب الخمر والزاني والقاذف والسارق، لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يجعلهم مرتدِّين يجب قتلهم، بل القرآن والنقل المتواتر عنه يبين أن هؤلاء لهم عقوبات غير عقوبة المرتد عن الإسلام، كما ذكر الله في القرآن جَلْد القاذف والزاني، وقطع السارق، وهذا متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا مرتدين لقتلهم، فكلا القولين مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأهل البدع إنما دخل عليهم الداخل؛ لأنهم أعرضوا عن هذه الطريق، وصاروا يبنون دين الإسلام على مقدمات يظنُّون صحتها، إما في دلالة الألفاظ، وإما في المعاني المعقولة، ولا يتأملون بيان الله ورسوله، وكل مقدِّمات تخالف بيان الله ورسوله، فإنها تكون ضلالًا”، انتهى مختصرًا من “مجموع الفتاوي” (7/286).
وللفائدة حول معنى نفي الإيمان في أحاديث الوعيد تراجع إجابة السؤال: (127933).
رابعًا:
مما يدل على أنَّ مراد الإمام أحمد بقوله في أحاديث الوعيد: “أمروها كما جاءت” هو إبقاؤها على (المعنى المعلوم) الذي بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله أو فعله أو غير ذلك، والكفّ عن تأويل المبتدعة: أنه قد ورد عنه تفسير أحاديث الوعيد في مواطن أخر.
فقد سئل الإمام أحمد عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)، و: (من حمل السلاح علينا فليس منا) فقال: “على التأكيد والتشديد، ولا أكفِّر أحدًا إلا بترك الصلاة”، انتهى من “السنة للخلال” (3/579).
وسأل ابنُ هانئ الإمامَ أحمد عن دليل نقصان الإيمان، فقال رحمه الله: “نقصانه قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن”، انتهى من “مسائل بن هانئ” (1907)، وانظر ما نقله شيخ الإسلام عن الإمام أحمد في “مجموع الفتاوي” (7/374).
بل تارة يجمع الإمام أحمد بين شرح الوعيد، وبينه قوله: (لا نفسرها)، كما في رواية عبدوس عنه رحمه الله قال: “وهذه الأحاديث التي جاءت: (ثلاث من كن فيه فهو منافق) هذا على التغليظ، نرويها كما جاءت، ولا نفسرها، وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفارًا ضُلالًا يضرب بعضكم رقاب بعض)، ومثل: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، ومثل: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، ومثل: (من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما)، ومثل: (كفرٌ بالله تبرؤٌ من نسب، وإن دقّ)، ونحوه من الأحاديث مما قد صح وحُفظ؛ فإنا نسلِّم له، وإن لم يُعلم تفسيرها، ولا يُتكلم فيه ولا يُجادَل فيه، ولا تُفسر هذه الأحاديث إلا بمثل ما جاءت، ولا نردُّها إلا بأحقّ منها”، انتهى.
وفي رواية أخرى قال الإمام أحمد: “هذا على التغليظ، وتروى كما جاءت، لا يجوز لأحد أن يفسرها” انتهى، وانظر الروايتين في “الجامع لعلوم الإمام أحمد” (3/30، 35).
فإنه جعل معناها: التغليظ وتشديد الزجر، لا التكفير، مع قوله في السياق نفسه: تُروى كما جاءت ولا نفسرها؛ فدل ذلك على أن مراده: لا نفسرها بتفسير المبتدعة، بل نبقيها على المعنى الذي أراده قائلها، وهو معنى معروف منقول عن الصحابة والتابعين، ودلَّ عليه بيانه صلى الله عليه وسلم قولًا وفعلًا وسكوتًا وبسياق الكلام وغير ذلك، ولذلك أجمع الصحابة والتابعون على ذم من كفر بالمعصية حين ظهرت تلك البدعة مع الخوارج.
والله أعلم.