الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
نبينا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، وأفضل الأنبياء، وخاتم المرسلين، وقد خصه الله عز وجل بخصائص، عني أهل العلم بجمعها حتى أفردوها بالتأليف، كما فعل جمال الدين السُّرَّمَرِّي (ت776هـ) في ” خصائص سيد العالمين”، وابن الملقن (ت804ه) في “غاية السول في خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم”، والسيوطي (ت911ه) في “الخصائص الكبرى”، وأوردها بعض الفقهاء أول باب النكاح، كما جرى عليه الحنابلة في مؤلفاتهم.
وما يذكره العلماء من الخصائص: منه الصحيح، ومنه الضعيف، ومنه ما لا أصل له.
والمؤمن تقر عينه بثبوت خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنها زيادة فضل له وكرامة، لكن لا يتكلف في إثبات ما لم يثبت؛ فإن الني صلى الله عليه عظيم الشرف، جليل القدر، قد حباه الله من الفضائل الصحيحة الثابتة ما يغني عن غير الضعيف، وما لا أصل له.
والنظم الذي ذكرته لم نقف على قائله، وما أورده من الخصائص منه الثابت، ومنه غير الثابت.
ونحن نذكر ما فيه بحسب الترتيب.
1-أنه صلى الله عليه وسلم لم يحتلم
وفي ذلك خلاف بين أهل العلم، والأقرب التفصيل.
قال ابن كثير رحمه الله: ” مسألة: هل كان يحتلم؟ على وجهين:
صحح النووي المنع. ويُشكل عليه حديث عائشة في الصحيحين: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم”.
والأظهر في هذا التفصيل، وهو أن يقال: إن أريد بالاحتلام فيض من البدن؛ فلا مانع من هذا.
وإن أريد به ما يحصل من تخبط الشيطان؛ فهو معصوم من ذلك صلى الله عليه وسلم” انتهى من “الفصول في السيرة”، ص302.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله، بعد أن ذكر قول القرطبي: كان لا يحتلم إذ الاحتلام من الشيطان وهو معصوم منه: = “وقال غيره: في قولها “من غير احتلام”: إشارة إلى جواز الاحتلام عليه، وإلا لما كان للاستثناء معنى.
ورُدَّ: بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصوم منه.
وأجيب: بأن الاحتلام يطلق على الإنزال، وقد يقع الإنزال بغير رؤية شيء في المنام” انتهى.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (151719).
2-أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له ظل:
وليس لهذا مستند صحيح، فقد ذكروا أن عدم الظل لكونه نورا، ولكون الغامة تظلله، وهذا ضعيف، فإنه صلى الله عليه وسلم نور يستضاء به في الديانات، ويهتدى بأقواله وأعماله، ولكنه بشر يستظل من الشمس كما ثبت في عدة أحاديث، ولو كان نورا بالمعنى الحسي، أو كانت الغمامة تظلله دائما، ما احتاج إلى ظل.
وقد روى البخاري (3906) في قصة الهجرة: (فَطَفِقَ مَنْ جَاءَ مِنَ الأَنْصَارِ – مِمَّنْ لَمْ يَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُحَيِّي أَبَا بَكْرٍ، حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى ظَلَّلَ عَلَيْهِ بِرِدَائِهِ، فَعَرَفَ النَّاسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ).
وروى البخاري (1536)، ومسلم (1180): “فَجَاءَ يَعْلَى، وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ”.
3-أن الأرض تبتلع ما يخرج منه صلى الله عليه وسلم
وفي ذلك أحاديث لا تصح.
وينظر جواب السؤال رقم: (75395).
4-أن الذباب لا يقع عليه، صلى الله عليه وسلم:
وقد ذكر ذلك القاضي عياض والسيوطي وغيرهما، ولم يذكروا له دليلا.
5-أنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، صلى الله عليه وسلم.
وهذا صحيح ثابت، كما روى البخاري (1147)، ومسلم (738) عن عائشة قالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (486874)، ورقم: (43355).
6-أنه يرى من خلفه، كما يرى من أمامه:
وهذا صحيح ثابت، كما روى البخاري (418)، ومسلم (424) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا ، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَىَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ ، إِنِّي لأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي(.
قال ابن رجب رحمه الله في “فتح الباري” (3/ 150): ” قال الأثرم: قلت لأحمد: قول النبي – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إني لأراكم من وراء ظهري)؟
قال: كان يرى مَن خلفه، كما يرى مَن بين يديه.
قلت: إن إنسانا قال لي: هو في ذلك مثل غيره، وإنما كان يراهم، كما ينظر الإمام عن يمينه وشماله؟
فأنكر ذلك إنكارا شديدا” انتهى.
وهل تشمل تلك المعجزة حال الصلاة وغيرها من الأحوال ؟ النص جاء في الصلاة ، وأما غيرها من الأحوال ، فلم يرد فيه نص ، والمسألة محتملة عند بعض العلماء ، وعند آخرين أنها خاصة بحال الصلاة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ” وَظَاهِر الْحَدِيث أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَصّ بِحَالَةِ الصَّلَاة , وَيحْتَمَل أَنْ يَكُون ذَلِكَ وَاقِعًا فِي جَمِيع أَحْوَاله, وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ مُجَاهِد” انتهى من ” فتح الباري لابن حجر”(1/515).
وانظر: جواب السؤال رقم: (201284)، ورقم: (199749).
7-أنه صلى الله عليه وسلم لم يتثاءب قط:
وذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ لأن التثاؤب من الشيطان، ويكرهه الله، كما صح في الحديث، ولورود هذه الخاصية في بعض الأحاديث، وإن كانت مرسلة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ” ومن الخصائص النبوية ما أخرجه ابن أبي شيبة والبخاري في التاريخ، من مرسل يزيد بن الأصم قال: ما تثاءب النبي صلى الله عليه وسلم قط.
وأخرج الخطابي من طريق مسلمة بن عبد الملك بن مروان، قال: ما تثاءب نبي قط.
ومسلمة أدرك بعض الصحابة، وهو صدوق.
ويؤيد ذلك: ما ثبت أن التثاؤب من الشيطان.
ووقع في الشفاء لابن سبع: أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يتمطى؛ لأنه من الشيطان. والله أعلم” انتهى من “فتح الباري” (10/613).
8-أنه وُلد مختونا، صلى الله عليه وسلم
وفي ذلك حديث ضعيف رواه الطبراني وفيه قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: (من كرامتي على ربِّي عز وجل أني وُلِدتُ مختونًا، ولم ير أحدٌ سوأتي).
قال ابن القيم: في إسناده عدة مجاهيل.
وقد ذكر ابن القيم الخلاف في هذه الخاصية، ثم قال: ” ولو ولد مختونًا؛ فليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ كثيرًا من الناس يولَد غيرَ محتاج إلى الختان” انتهى من تحفة المودود، ص204
وينظر: جواب السؤال رقم: (31069)، ورقم: (322812).
9-أن الدواب تعرفه، صلى الله عليه وسلم
وهذا ثبت في عدة وقائع، كما في حديث عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُرْطٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَعْظَمُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ).
وَقُرِّبَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ بَدَنَاتٍ، أَوْ سِتٌّ، يَنْحَرُهُنَّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ، أَيَّتُهُنَّ يَبْدَأُ بِهَا، فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا، قَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً لَمْ أَفْهَمْهَا، فَسَأَلْتُ بَعْضَ مَنْ يَلِينِي: مَا قَالَ؟
قَالُوا: قَالَ: (مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ) رواه أحمد (19075)، وأبو داود (1765)، وصححه الألباني.
وكما في حديث عبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا النَّاسِ… قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: (مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ، لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟)، فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: (أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا؟، فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ) رواه أحمد (1745)، وأبو داود (2549) وصححه الألباني.
لكن هل هذه المعرفة لعموم الدواب، وفي عموم الأحوال؟
لم نقف على ما يدل لذلك، ولا ما ينفيه. فالله أعلم بحقيقة الحال.
10-أنه صلى الله عليه وسلم يعلو من جالسه، أو مَاشاه:
وفي ذلك حديث ضعيف لايثبت، حديث عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا الْمُشَذَّبِ الذَّاهِبِ.
وَالْمُشَذَّبُ: الطَّوِيلُ نَفْسُهُ إِلَّا إِنَّهُ الطَّوِيلُ النَّحِيفُ.
وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَصِيرِ الْمُتَرَدِّدِ فَكَانَ يُنْسَبُ إِلَى الرَّبْعَةِ إِذَا مَشَى وَحْدَهُ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى ذَلِكَ يُمَاشِيهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، يُنْسَبُ إِلَى الطُّولِ؛ إِلَّا طَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَلَرُبَّمَا مَاشَى الرَّجُلَيْنِ الطَّوِيلَيْنِ فَيَطُولُهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا فَارَقَاهُ: نُسِبَا إِلَى الطُّولِ، وَنُسِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الرَّبْعَةِ.
وَيَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: جُعِلَ الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الرَّبْعَةِ…” الحديث.
رواه أبو نعيم في “دلائل النبوة” (566) والبيهقي في “دلائل النبوة” (1/298)، وفي إسناده: صبيح بن عبد الله الفرغاني، قال عبد الغني المصري: منكر الحديث، وقال الخطيب في كتاب “التلخيص”: صاحب مناكير.
ولمزيد الفائدة: ينظر جواب السؤال رقم: (513460).
وليعلم أن ذكر هذه الخصائص لم يختص به الصوفية، فقد ذكرها كثير من أهل العلم، مقرين لها، أو لبعضها.
وينظر هذا المقال: خصائِصُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بين الحقيقة والخُرافَة.
والله أعلم.