خطر ببالي سؤال قبل بضعة أيام فقد جاء في سورة يوسف في الآيات من 70-77 أن نبي الله يوسف قد كذب ، وأنه كان هناك خداع وتلاعب بالأدلة في إقامة الدعوى.
ويقول الله في الآية 76 “وكذلك كدنا ليوسف”. أي أن الله دبر ليوسف طريقة للخداع والكذب من أجل الحصول على ما يريد إذ إن إخوته لم يأخذوا الصواع حقًا.
فأنا أرجو أن أعرف الرد على هذا الادعاء الفظيع ، إذ إن علمي بالقرآن ضئيلٌ جدًا.
معنى قوله تعالى : ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ )، وبركة هذا الكيد عليه وعلى أسرته.
السؤال: 245339
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وبعد.
أولا :
الله عز وجل أصدق القائلين ، قال تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) النساء/ 87 ، وقال تعالى : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) النساء/ 122 .
فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى شيء من الكذب ؛ جل الله في علاه عن ذلك ، وتنزه وتقدس.
ونبي الله يوسف عليه السلام نبي صديق ، والصديق : الفعّيل من الصدق ، ومن التصديق ، والمراد المبالغة فيه ، قال الرازي رحمه الله :
” الصِّدِّيقُ: اسْمٌ لِمَنْ عَادَتُهُ الصِّدْقُ، وَمَنْ غَلَبَ عَلَى عَادَتِهِ فِعْلٌ ، إِذَا وُصِفَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ قِيلَ فِيهِ: فِعِّيلٌ ” انتهى من ” تفسير الرازي ” (10/ 133) .
وقال القرطبي رحمه الله :
” الصِّدِّيقُ هُوَ الَّذِي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُ بِلِسَانِهِ ” انتهى من ” تفسير القرطبي ” (5/ 272).
ثانيا :
قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام مع إخوته :
( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ * قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ * قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ * قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ) يوسف/ 70 – 77 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
” (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ) أي: كال لكل واحد من إخوته، ومن جملتهم أخوه هذا.
(جَعَلَ السِّقَايَةَ) وهو: الإناء الذي يشرب به ، ويكال فيه ( فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ ) أوعوا متاعهم . فلما انطلقوا ذاهبين، ( أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) ولعل هذا المؤذن، لم يعلم بحقيقة الحال.
(قَالُوا) أي: إخوة يوسف (وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ) جاءوا مقبلين إليهم، ليس لهم همٌّ إلا إزالة التهمة التي رموا بها عنهم، فقالوا في هذه الحال: (مَاذَا تَفْقِدُونَ) ولم يقولوا: “ما الذي سرقنا” لجزمهم بأنهم براء من السرقة.
(قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ) أي: أجرة له على وجدانه (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) أي: كفيل، وهذا يقوله المؤذن المتفقد.
(قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ) بجميع أنواع المعاصي، (وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) فإن السرقة من أكبر أنواع الفساد في الأرض، وإنما أقسموا على علمهم أنهم ليسوا مفسدين ولا سارقين، لأنهم عرفوا أنهم سبروا من أحوالهم ما يدلهم على عفتهم وورعهم، وأن هذا الأمر لا يقع منهم بعلم من اتهموهم، وهذا أبلغ في نفي التهمة، من أن لو قالوا: ” تالله لم نفسد في الأرض ولم نسرق “
(قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ) أي: جزاء هذا الفعل (إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ) بأن كان معكم؟
(قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ) أي: الموجود في رحله (جَزَاؤُهُ) بأن يتملكه صاحب السرقة، وكان هذا في دينهم أن السارق إذا ثبتت عليه السرقة كان ملكا لصاحب المال المسروق، ولهذا قالوا: (كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) .
(فَبَدَأَ) المفتش (بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ) وذلك لتزول الريبة التي يظن أنها فعلت بالقصد، فلما لم يجد في أوعيتهم شيئا (اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ) ولم يقل “وجدها، أو سرقها أخوه” مراعاة للحقيقة الواقعة .
فحينئذ تم ليوسف ما أراد من بقاء أخيه عنده، على وجه لا يشعر به إخوته، قال تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) أي: يسرنا له هذا الكيد، الذي توصل به إلى أمر غير مذموم (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) لأنه ليس من دينه أن يُتملك السارق، وإنما له عندهم، جزاء آخر، فلو ردت الحكومة إلى دين الملك، لم يتمكن يوسف من إبقاء أخيه عنده، ولكنه جعل الحكم منهم، ليتم له ما أراد.
قال تعالى: (نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ) بالعلم النافع، ومعرفة الطرق الموصلة إلى مقصدها، كما رفعنا درجات يوسف، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) فكل عالم، فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
فلما رأى إخوة يوسف ما رأوا (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ) هذا الأخ، فليس هذا غريبا منه. (فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) يعنون: يوسف عليه السلام، ومقصودهم تبرئة أنفسهم ، وأن هذا وأخاه قد يصدر منهما ما يصدر من السرقة، وهما ليسا شقيقين لنا.
وفي هذا من الغض عليهما ما فيه، ولهذا: أسرها يوسف في نفسه (وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ) أي: لم يقابلهم على ما قالوه بما يكرهون، بل كظم الغيظ، وأسرَّ الأمر في نفسه. (وقَالَ) في نفسه (أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا) حيث ذممتمونا بما أنتم على أشر منه، (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) منا، من وصفنا بالسرقة، يعلم الله أنا براء منها ” انتهى من ” تفسير السعدي ” (ص 402) .
وليس هذا من يوسف عليه السلام من الكذب أو الخداع المحرم ، ولكنه من الكيد الحسن الذي كاد الله به له ليتم عليه نعمته ، ويجمعه بوالديه وأهله ، وليستقبل إخوته التوبة ، وليظهر لهم خطؤهم فيما صنعوه بأبيهم وأخويهم ، وليتم الله نعمته على أبيهم يعقوب عليه السلام ، ويرد عليه ابنه بعد طول غياب وشدة معاناة ، فكاد الله تعالى لنبيه هذا الكيد الحسن المبارك ، لتحصل هذه النعم للجميع ، وليس هذا من الظلم والعدوان والخداع المحرم ، حاشا وكلا .
والمنادي الذي نادى : ( أيتها العير إنكم لسارقون ) كان يظن أنهم الذين سرقوا صواع الملك ، فنادى بما يعلم ، فلم يكن كاذبا .
ويوسف عليه السلام قصد أنهم سرقوه من أبيه ، وقد صدق ، وهذا من جملة المعاريض الحسنة التي يتوصل بها إلى معرفة الحق وإقامة الدليل عليه .
قال ابن الجوزي رحمه الله :
” فإن قيل: كيف جاز ليوسف أن يُسرِّق من لم يسرق؟ فعنه أربعة أجوبة:
أحدها: أن المعنى: إِنكم لسارقون يوسف حين قطعتموه عن أبيه وطرحتموه في الجب، قاله الزجاج.
والثاني: أن المنادي نادى وهو لا يعلم أن يوسف أمر بوضع السقاية في رحل أخيه، فكان غير كاذب في قوله، قاله ابن جرير.
والثالث: أن المنادي نادى بالتسريق لهم بغير أمر يوسف .
والرابع: أن المعنى: إِنكم لسارقون فيما يظهر لمن لم يعلم حقيقة أخباركم، كقوله: ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) أي: عند نفسك، لا عندنا. وقولِ النبي صلّى الله عليه وسلم: ( كذب إِبراهيم ثلاث كَذَبات ) أي: قال قولاً يشبه الكذب، وليس به ” انتهى من ” زاد المسير” (2/ 457) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
” يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَصَدَ: إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يُوسُفَ مِنْ أَبِيهِ ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي هَذَا.
وَالْمَأْمُورُ قَصَدَ: إنَّكُمْ لَسَارِقُونَ الصُّوَاعَ ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ سَرَقُوهُ، فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ كَذِبًا ” انتهى من ” مجموع الفتاوى ” (16/ 451) ، وينظر أيضا : ” الفتاوى الكبرى ” (6/ 127).
وقال ابن القيم رحمه الله في “إغاثة اللهفان” (2/ 118):
” كان إلهام الله تعالى لإخوة يوسف عليه السلام قولهم: (مَنْ وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ) كيدا من الله تعالى ليوسف عليه السلام، أجراه على ألسن إخوته، وذلك خارج عن قدرته.
وكان يمكنهم أن يتخلصوا من ذلك، بأن يقولوا: لا جزاء عليه، حتى يثبت أنه هو الذى سرق، فإن مجرد وجوده فى رحله لا يوجب أن يكون سارقاً ؛ وقد كان يوسف عليه السلام عادلا لا يأخذهم بغير حجة .
وكان يمكنهم التخلص أيضا بأن يقولوا: جزاؤه أن يفعل به ما تفعلونه بالسراق فى دينكم، وقد كان من دين ملك مصر – فيما ذكر -: أن السارق يضرب ويغرم قيمة المسروق مرتين، فلو قالوا له ذلك، لم يمكنه أن يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم، فلذلك قال سبحانه: (كَذلكَ كِدْنَا لِيُوسُفْ مَا كَانَ لِيَأْخُذُ أَخَاهُ فِى دِينِ المَلِكِ إلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ)
أى ما كان ليمكنه أخذه فى دين ملك مصر، لأنه لم يكن فى دينه طريق إلى أخذه.
وقوله (إِلا أَنْ يَشَاءَ اللهُ) استثناء منقطع، أى لكن إن شاء الله أخذه بطريق آخر، ويجوز أن يكون متصلا، والمعنى: إلا أن يهيئ الله سببا آخر يؤخذ به فى دين الملك غير السرقة ” انتهى .
وينظر أيضا : “إعلام الموقعين” (3/ 168).
وقال ابن كثير رحمه الله :
” (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) وَهَذَا مِنَ الْكَيْدِ الْمَحْبُوبِ الْمُرَادِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ الْمَطْلُوبَةِ ” انتهى من ” تفسير ابن كثير ” (4/ 401) .
والمقصود أن ذلك كله ليس من الكذب في شيء، ولكنه من المعاريض الحسنة التي كان من آثارها : ظهور الحق ، واعتراف المخطئ بخطئه ، وتوبته منه ، والتحلل من المظلوم ، وجمع الشمل ، وتحقيق موعود الله ليعقوب ويوسف عليهما السلام ، ونصرة الله للمظلوم ، وكيده له ، وهذا كله من الفضل العظيم الذي توصلوا إليه عن طريق هذه المعاريض التي ليست بكذب ، وإن كان يظنها من لم يفهم حقيقة الأمر : أنها كذب .
والله أعلم .
هل انتفعت بهذه الإجابة؟
المصدر:
موقع الإسلام سؤال وجواب